عندما ينتحر التاريخ… وتتهاوى الجغرافيا
إياد أبو شقرا
لقد كانت ساعات قليلة حافلة، ذات دلالات عميقة الأثر وبعيدة الأمد…
من هامبورغ رشح «التفاهم» المبدئي الأميركي الروسي على مصير سوريا، ومن بغداد وردت بشائر «تحرير» الموصل، وفي لبنان يتحمّس «السِّياديون» لإنهاء مفاعيل نزوح الضحايا بإعادتهم إلى أحضان مَن نزّحهم… وهي أحضان عاش اللبنانيون «حنانها» لأكثر من ثلاثة عقود.
«تفاهم» واشنطن وموسكو حول بقايا سوريا ينطلق من مصالحهما أساساً، ومن بعدها مصالح اللاعبين الإقليميين. وإذا كان للمراقب أن يقرأ التفاصيل من دون أوهام، فلا بد من التوقّف عند بعض النقاط..
الأولوية الأهم عند موسكو في سوريا هي المحافظة على حضورها المتبقي في شرق المتوسط بعدما خسرته في العراق وشمال أفريقيا وجنوب شبه الجزيرة العربية (اليمن الجنوبي سابقاً). وفي هذا السبيل كان الكرملين مستعداً للذهاب حتى التدخل العسكري المباشر، قصفاً وقواعد عسكرية وتطوّعاً بمسوّدة دستور جديد. والأولوية الثانية، هي استغلال الحضور الإيراني لابتزاز واشنطن وتحقيق أكبر قدر من التنازلات الأميركية على أوسع نطاق، سواءً في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وغيرهما. هاتان الأولويتان ترجمتهما موسكو على أرض سوريا، مستفيدة من اقتناع باراك أوباما بـ«شرق أوسط» تكون فيه إيران شريكاً ضد «السنّية السياسية»، والآن تسعى القيادة الروسية لبلورتهما مع إدارة جمهورية كانت تتمنى فوزها… إن لم يكن قد سهّلت لها هذا الفوز.
في المقابل، في واشنطن، وعلى الرغم من وجود «الدولة العميقة»، حدث تغيّر ملموس في المقاربة الأميركية للملف الإيراني. ومع أن الإدارة الجمهورية الحالية لن تسعى إلى حرب مع إيران لكونها بحاجة إليها في إطار المصالح الجيو- بوليتيكية الأوسع، فإنها – بخلاف حماسة سابقتها الديمقراطية – تريدها شريكاً صغيراً يُؤمَر فينفِّذ لا شريكاً كبيراً يُقرّر ويَفرُض. وهذا هو أيضاً موقف إسرائيل، حليف واشنطن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وصاحب النفوذ المؤثر وراء الستار.
لدى واشنطن، مثل موسكو وطهران، اعتبارات أكبر بكثير من مصير الشعب السوري كله… فكيف بهويّة الشخص الذي يحكمه وبأي صفة يحكمه، في «دولة فاشلة» وبلد مقسّم واقعياً، نزح عن مدنه وقراه أكثر من نصف سكانه؟
أصلاً، قبل «انتفاضة 2011» كانت كل المناصب السياسية الرسمية في سوريا، باستثناء منصب الرئيس، مناصب صوَرية لا تقدّم ولا تؤخر، لكون السلطة الفعلية بيد الرئيس وأجهزته الأمنية. أما اليوم، فباتت السلطة الفعلية في أيدي مَن يسيطرون على القواعد العسكرية ويحرّكون الطائرات الحربية وينظمّون عمليات التهجير والفرز السكاني، ويغطّونها دولياً. وبالتالي، انتهت «صلاحية» منصب الرئاسة… وغدت هوية شاغله تفصيلاً صغيراً في مشهد كبير.
هذا في سوريا، أما في العراق فنسمع التساؤل «ماذا بعد تحرير الموصل؟» ولا شك هذا سؤال ستوضح إجابته الكثير من مُبهمات المنطقة. لقد أدى «داعش» المهمة المأمولة منه، كما فعل من قبله تنظيم «القاعدة»، وأجهز على الحضور السياسي والديمغرافي للعرب السنّة الذين لعبوا دوراً محورياً في قيام العراق الحديث عام 1920. واليوم بين الاحتلال الإيراني الواقعي المتجسّد بأمثال «أبو مهدي المهندس» وهادي العامري وقيس الخزعلي من جهة، والعد العكسي لانفصال إقليم كردستان العراق من جهة ثانية، ما عاد حال العراق يختلف كثيراً عن حال سوريا.
ولكن، لئن كانت استراتيجية واشنطن المعلنة إزاء البلدين الجارين – بل التوأمين – تقوم على أساس «فصل طهران عن موسكو»، فإن الوجود الإيراني في العراق أقوى مذهبياً وسياسياً وجغرافياً منه في سوريا. فعلى الرغم من عمليات التجنيس المكثفة منذ 2011، والعمق الشيعي غرباً في لبنان، يظل الوجود الإيراني في سوريا عملياً «جسراً» استراتيجياً إلى لبنان والبحر.
في سوريا، قد تضحّي روسيا بعلاقاتها الخاصة مع إيران لقاء تفاهم إقليمي يأخذ في الحساب مطالب تركيا والأكراد وإسرائيل. إلا أن إبعاد إيران عن العراق في هذه المرحلة يبدو مهمة صعبة من دون التزام أميركي حقيقي وجادّ… لا مؤشرات على أنه متوافر.
ونصل إلى لبنان. هنا يسعى حزب الله، الذي هو قوة «الأمر الواقع» الإيرانية المتحكّمة بمفاصل السلطة والأمن والسلاح، إلى تصفية النزوح السوري الذي كان في طليعة المتسبّبين فيه أصلاً. والحزب، بعدما شارك أمام أعين العالم بتهجير سكان معظم سكان المناطق السورية الحدودية مع لبنان، من تلكلخ والقصير شمالاً، إلى الزبداني وبلدات وادي بردى جنوباً، مروراً ببلدات القلمون الشرقي، يخطط اليوم عملياً لتهجير سكان المناطق اللبنانية التي تعطّل دوره في دعم حكم الأسد والوجود الإيراني في وسط سوريا.
هذا يعني استهداف بلدة عرسال الحدودية السنّية التي استقبلت عشرات الألوف من النازحين السوريين، وتهجير أهلها بحجة القضاء على «التكفيريين». وهي الحجة نفسها التي روّجت خلال السنوات القليلة الماضية لعمليات التغيير السكاني ب«حافلات الأسد الخضراء» والقدرات التحريرية لـ«الحشد الشعبي» العراقي في سوريا والعراق.
في اعتقادي، إذا كان هناك قرار دولي متخذ على أعلى المستويات بتسوية في سوريا، وفق نصوص «التفاهم» الأميركي الروسي، فهذا أمر يتعذر الوقوف بوجهه، لا سيما أن بعض القوى التي طالما ادعت وقوفها إما ضد الأميركيين، أو ضد الروس، أو ضد كليهما، منخرطة – بصورة أو بأخرى – مع أحدهما أو كليهما.
وبصرف النظر عن نية واشنطن أو قدرتها في موضوع إخراج إيران من العراق، فالواضح أننا في سوريا، واستطراداً في لبنان، أمام صورة مغايرة تماماً. فشأن الشمال السوري بات رهناً بحسابات تركية وكردية، بينما مستقبل الجنوب السوري المتاخم للأردن وجنوب شرقي لبنان والجولان المحتل إسرائيلياً… تحدّده معطيات عربية وإسرائيلية.
خلاصة القول. إذا استطاع «التفاهم» الأميركي الروسي إخراج إيران من سوريا ورتّب أوضاع سوريا السياسية والديمغرافية، لن يعود موضوع سرعة البت بمصير رئيس النظام ذا شأن لأن السلطة باتت في مكان آخر.
إلا أن بقاء إيران بموجب «صفقة» تبقى تفاصيلها ضمنية، فسيعني أن علينا توقع المزيد من المعاناة… و«الحافلات الخضراء»!