عندما لا يكون المعلق محمد بالراس علي
سالم العوكلي
أذكر بداية الثمانينيات، عندما كنت اتابع إحدى مباريات كرة القدم صحبة بعض الأصدقاء، وطلبت منهم الهدوء، قال أحدهم: هذه مباراة كرة قدم تابعها بعينيك. فقلت له: عندما لا يكون المعلق محمد بالراس علي.
لعل السؤال أو الأسئلة التي تطرح نفسها حين يكون الحديث عن محمد بالراس علي (الظاهرة) تتمحور حول : لماذا تميز بالراس علي ونال هذا الاتفاق الجمعي على تميزه في زمن يقل فيه التميز ويندر فيه الاتفاق؟
كيف يصبح معلق رياضي مصاحب للعبة ساحرة بصريا نجما، وربما أكثر نجومية من اللاعبين أنفسهم؟.
مال الذي جعل مهنة تنمو عادة على هامش مباريات كرة القدم الضاجة ، مثل التعليق، في المتن ، للدرجة التي جعلت الكثير من المباريات على هامش التعليق؟
محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ، في هذا الزمن الذي يتحول فيه التعليق إلى ضجيج يشبه ضجيج المنفعلين في المدرجات، صعبة، إلا أنها تذهب بنا إلى قيم أخلاقية مهنية تجعل من كل مهنة فنا.
ولعل أهم قيمة جعلت من أداء بالراس علي مميزا هي الإتقان ، وهي القيمة التي نفتقدها الآن في كل مجالات حياتنا.
الولع، والمثابرة، والجهد المضني، والمتابعة لكل حدث، في زمن كانت الإمكانات التقنية والتواصلية متواضعة جدا، هي ما أدت إلى الإتقان الذي منطلقه احترام المشاهد والمستمع واحترام اللعبة.
في زيارتي الأخيرة لعمان، فبراير 2018، بدعوة من قناة 218 ، تشرفت بحضور غداء مع المعلق محمد بالراس علي الذي مازال يحتفظ بذلك التوهج والسعادة في عينيه حين يكون الحديث عن كرة القدم. كان اللقاء في اليوم السابق لمباراة القمة بين ريال مدريد وباريس سان جرمان ضمن كأس أبطال أوروبا، وحين انتقل الحديث إلى هذه المباراة طلب منا أن نتوقع النتيجة، وكل منا قال توقعه، وحين وصل إليه الدور لم يقل النتيجة فقط لكنه توقع الكيفية، فقال: سيسجل باريس سان جرمان هدفا ويفوز ريال مدريد بثلاثة مقابل هدف.
في اليوم التالي كنت برفقته في مقهى يعرض المباراة، وجاء النُدل ليسألوه عن توقعه، فأخبرهم بما أخبرنا به على الغداء. كان باريس سان جرمان في ذروة قوته والمباراة على أرضه وريال مدريد الخارج من الماركاتو السابق صفر اليدين، والذي خسر على أرضه في الدوري الأسباني مباريات مع فرق صاعدة من الدرجة الأدنى، يوحي بضعف لن يصمد به أمام الفريق الذي قام بأكبر صفقات شراء لاعبين في تاريخ كرة القدم. لاحظت الاستغراب على وجوه من سألوه من العاملين في المقهى والبعض منهم ضحك، ويبدو أنهم من مشجعي برشلونة المتوقعين خسارة ريال مدريد بنتيجة كبيرة .
انتهت المبارة وفاز توقع بالراس علي بكل تفاصيله، ولأنني مدريدي أخذته بالأحضان، أما البرشلونيون الذين سخروا في البداية من توقعه فقد عادوا بكامل الجدية ليسألوه عن توقعه لنتيجة مباراة برشلونة وتشيلسي الأسبوع القادم؟ فضحك، وقال لهم : هذه مجرد توقعات وأنا لست مشعوذا. وفي بقية الحديث تكلم عن معطيات المباراة التي جعلته يتوقع هذا السيناريو، معرفته بتاريخ ريال مدريد حتى وهو ليس في قوته، وبالمدربين، وبخبرة اللاعبين في تعاملهم مع المباريات الكبرى، وغير ذلك من المعطيات التي لا ينتبه لها إلا متابع يتقن عمله ولا يؤثر فيه الضجيج الإعلامي السائد.
تميز بالراس علي لم يكن وليد الصدفة، أو لأنه فقط يتعامل مع رياضة شعبية تستهوي الملايين، لكنه كان نتاج فترة طويلة من الإصرار والمثابرة والنهم المعرفي تجاه استيعاب وهضم كل تفاصيل المهنة وشروط نجاحه فيها، مع نزوع قوي لأن يضيف لمهنة التعليق ألقا جديدا، ويحقنها بمزيد من الجمال ، عبر الحياد الفني والمعلومة الذكية واللباقة والتكثيف في العبارة. فكان يضيف لجمال كرة القدم جمالا آخر، وفرض علينا أن نصغي جيدا لمباريات مرئية متوجهة إلى البصر، فاصطاد الأذن كأداة تلق لتستمع بأسلوبه الرشيق وبغزارة المعلومات التي يختار أفضل الأوقات لعرضها دون أن تأخذه بعيدا عن مجريات اللعب كما يحدث الآن مع أغلب المعلقين، وبتحليله الحاذق لتكتيكات المباراة وحدوسه بمساراتها التي لا يعرفها سوى المدربين، وفوق ذلك استطاع أن يحافظ بقدر كبير على حياد المعلق وموضوعيته وروحه المهنية، رغم دفق أحاسيسه الذي كنا نلتقطه في نبرة صوته حين يعلق على منتحب ليبيا، أو بحس مفعم بالجمال حين يعلق على منتخب البرازيل، غير أن هذه العواطف لم تؤثر على جدية تحليله وممارسة نقده الموضوعي الهادئ للوقائع الكروية التي يتابعها في المباراة، وكثيرا ما كان يتمنى التوفيق للفريقين في بداية المباراة، معتبرا أن التوفيق هو اللعب الجميل وظفر الجمهور بمباراة ممتعة بغض النظر عن النتيجة.
يقول عن اللاعب البرازيلي أنه مهووس باللعبة الجميلة حتى وإن كلفته هدفا، ويقول عن لاعب القرن: وصول الكرة إلى قدمي مارادونا تعني سقوطه، ونحن كمصطافين على شواطئ الشعر آنذاك كنا نتوقف كثيرا أمام ومضاته الشعرية التي تلتقط مكامن الجمال من لعبة أساسها قوة الجسد والعرق المتصبب فوق العشب.
يناير 2010 دعونا الأستاذ، محمد بالراس علي، لإلقاء محاضرة ببيت درنة الثقافي بعنوان “لكرة القدم ثلاث ثقافات” . يقول في مقدمة محاضرته التي مزج فيها الثقافة بكرة القدم باللغة الأدبية : “لقد تجولت بين ملاعب كرة القدم في العالم ، وتأكد لي أن أهم ملعب هو الملعب الثقافي. قد يظن البعض أن لا علاقة بين الثقافة وكرة القدم ، وأن لا سبيل لالتقائهما. ولكن لا سبيل لتطوير الأداء الرياضي والارتقاء به إلا بتطوير الأداء الثقافي والارتقاء به هو الآخر، فقد يتحول الأداء الرياضي إلى كابوس ما لم يكن هناك عمل ثقافي يحتويه”.
إدراج كرة القدم في قلب ثقافة الشعوب. لعل هذه وصفته السحرية لنجاح هذه اللعبة ونجاح من اختار أن يكون جزءا منها.