عقار الدعابة
عمر أبو القاسم الككلي
في اعتقادي، يختلف مدلول “السخرية” عن مدلول “الدعابة” أو “روح الدعابة”. فكثيرا ما تحمل السخرية قدرا من التهجم على الموضوع، أو الشخص، المسخور منه. فيها قدر من الاستهزاء والهجاء. أما الدعابة فهي “فكاهة مسالمة”، تستهدف التنشيط الذهني والترويح النفسي.
لكن مصطلح “الأدب الساخر” شاع واتخذ مدلولا مقبولا.
بالنسبة إليَّ، وجدتني، منذ البداية، ميالا في كتابتي إلى الدعابة وليس إلى السخرية، وتبلور لديَّ هذا التفريق في وقت مبكر. ولقد انتبه أكثر من صديق مهتم بمتابعة كتاباتي القصصية إلى هذا المظهر لديَّ وأبدى إعجابه به.
فأنا حريص على أن تكون روح الدعابة هذه موجودة بقدر محسوب، بحيث تبعث في نفس القارئ قدرا من السرور، دون أن يتحول العمل إلى نص فكاهي. إنني أسعى وراء إحداث افترار الثغر والابتسام، وليس نحو تفجير القهقهة.
وهذا بارز، أيضا، في كتابي “سجنيات”. وأقول “أيضا” لأن القارئ يتوقع أن كتابا يتحدث عن السجن سيكون خاليا من روح الدعابة. فالسجن ليس مزحة، وليس حديقة نزهة أو مقهى يلتقي فيها الأصدقاء. إنه “حيز” محصور بين جدران عالية. هو مكان تسيطر عليه الخشونة والفظاظة والجهامة. مكان محروس، شديد الحراسة، يتواجه فيه السجين يوميا مع حراس مسلحين، مستعدين للإيذاء، وحتى القتل. ليس الأمر لعبة، أو تمثيلية.
نعم. هذا صحيح صحة صلبة دامغة. بيد أن السجن يحتجز ويحتبس داخله بشرا. والبشر مشحونون بغريزة البقاء. فمثلما دفعتهم هذه الغريزة إلى قهر الظروف الطبيعية المعادية وتكييفها لصالح استمرار بقائهم وبناء الحضارات، تدفعهم، في الظروف القاسية، غير الطبيعية، الظروف التي يضعهم فيها أخوانهم من البشر، إلى تخفيف مشاق ومتاعب وإذلالات هذه الظروف. هنا غريزة البقاء تؤدي وظيفتها على نحو مختلف. قد لا تكون تعمل لحفظ بقاء الجسد، ولكنها تصب جهدها على حفظ بقاء الروح متوهجة تصارع الانكسار والخور والجنون. تحافظ على ما نسميه المعنويات العالية. ومن ضمن وسائل أداء هذه الوظيفة استنباع روح الدعابة من أعماق هذا الوضع المعادي لما هو إنساني. بحيث يتم استخلاص إكسير معادٍ للسجن ويخفف من وطأته، مثلما يتم استخلاص دواء شاف من السموم القاتلة.
مثلما أقام البشر حضارات على أساس غريزة البقاء، يقيم سجناء الرأي حضارة على أساس من هذه الغريزة نفسها. فهم يعقدون الندوات والنقاشات، ويؤلفون ويترجمون الكتب، ويصدرون الصحف والمجلات.