عدوّ الشعب..
فرج عبدالسلام
لم تخفت نار الضجة التي أثارها دونالد ترامب عندما جاهر مرارا بإعلان انزعاجه الشديد من وسائل الإعلام في بلاده، واعتبارها معادية للشعب من خلال عدائها المعلن له. وقد نالت صفة”عدوّ الشعب” شهرتها من مسرحية بهذا العنوان للكاتب النرويجي الكبير “هنريك إبسن” في القرن التاسع عشر، حيث يحاول البطل كشف قضية فساد كبيرة فيجد مساعدة من الأصدقاء والمجتمع والإعلام أيضاً، ولكن يعمل المال الفاسد عمله في نفوس من حوله فيتخلون عنه في هذه القضية، ويصبح الرجل عدوّا لشعب بأكمله .
لم يقتصر استخدام هذا التعبير الفضفاض على “ابسن” في مسرحيته، فقد درج الطغاةُ على مر العصور وخاصة الحديثة منها على رفعه في وجه خصومهم ومعارضيهم، وتفيد الوقائعُ التاريخية أن الزعماء الشموليين من أمثال الصيني ماوتزي دونغ، والروسي ستالين، والألماني هتلر، والليبي القذافي توسعوا في الاتكاء على هذه الصيغة الخطيرة والمبهمة التي تمكّنُ أجهزتهم القمعية من تلفيق التهم للمعارضين وبالتالي التنكيل بهم.
في ركننا البائس هذا من العالم، استغلت الأنظمة العربية الحديثة على اختلاف توجهاتها وأنواعها الملكية والجمهورية والجملوكية والشعبوية هذا التعبير الفضفاض واستخدمته في التنكيل بخصومها في داخل البلاد وخارجها بحجة عداوتهم لـ “الشعب” وسجلت كتب التاريخ وقائع مخزية ضد المعارضين في بلدان العرب من البحر إلى البحر. ولعل بإمكاننا بحكم التجربة والمعايشة العينية التطرق إلى الحقبة “المعمرية” في ليبيا، وكيف كان تعبير “عدو الثورة” أو “عدو الفاتح” يجد طريقه بسهولة إلى خطاب رأس النظام وأعوانه ووسائل إعلامه، وغالبا ما ينتجُ عن إلصاق هذه التهمة موتٌ أو سجن في أحس الأحوال، وهكذا طورد “أعداء الشعب” وقتلوا ونُكل بهم في الداخل وفي المنافي.
لكن ها هو الوصف المشين القديم، الذي اعتقد الناس إن استخدامه يقتصر على الأنظمة الشمولية التسلطية يعود إلى الحياةِ من جديد، في عقر دار أعتى الديموقراطيات في العصر الحديث، والتي طالما بشرت أدبياتها وإعلامها بحرية الرأي والفكر فيها خلافا للنظم الشمولية، واشتهر إعلامها وانتشر لأنه يستمد سطوته من حريته. ولم تكن العودة لاستخدام هذا التعبير المبهم والمميت أحيانا إلاّ على لسان ترامب زعيم “العالم الحر” نفسه الذي استخدمه لنعت وسائل الإعلام الأمريكية بأنها معادية له وبالتالي للشعب الأميركي. طبعا الأمور مختلفة هناك، فلم يمرّ هذا الأمر بسهولة كما الحال عندنا، إذ سرعان ما انطلقت ردود الأفعال والتعليقات النارية على نمط هذا الخطاب الجديد وتداعياته في محراب الديموقراطية، ضد رئيس يضيق بوسائل الإعلام. فلم يصف رئيس سابق وسائل الإعلام بأنها عدوة للشعب، وهذا مثالٌ مرعبٌ على خطاب نموذجي لديكتاتورٍ مثالي.
ليس في أميركا فقط، ولكن في بقية العالم أيضا يتخوّفُ الناس من نموّ هذا الخطاب الشعبوي المتطرف الذي يسقي بذرة العداوة بين الشعوب، والذي يلعب على وتر هواجس الناس في دول الغرب وخوفهم من الإرهاب والتطرف الذي تُنسب أصوله عن حق في أغلب الأحيان، إلى منطقتنا وفكرنا.. وربما يجب على قادة دول ركننا المستهدف من العالم المعنية بخطاب العداوة في المجمل، بحث هذه المسألة بعناية ومحاولة إيجاد مخرج من هذا المأزق التاريخي، حتى لا يجدوا أنفسهم وشعوبهم بالكامل موصومين بالعداء لـ “الشعب” أيضا.