عبودية المرء للتكنولوجيا: سجن مواقع التواصل الاجتماعي!
أول ما قد يفعله المرء في الصباح هو التقاط هاتفه المحمول لغلق المنبه وهو غاضب، ثم يغط في النوم بضع دقائق. لكن سرعان ما يصفعه المنبه مرة أخرى، فيتململ في امتعاض ليغلقه مرة أخيرة. لكن مهلًا، هنا يبدأ الفرد منا في تغيير سلوكه. فبدلًا من العودة للنوم، تطرق أبواب العقل العديد من مضار تفويت اليوم؛ فيستيقظ كامل الجسد مجبرًا.
قبل الذهاب للاستحمام، الهاتف في اليد. أثناء الاستحمام، الهاتف على المرحاض. بعد الاستحمام، الهاتف في الصالة. عند نزول الشارع، الهاتف في الجيب. بعد العودة، الهاتف على السرير.
وهكذا.. وهكذا.. وهكذا..
الدافع العقلي الذي جعل الجسد يستيقظ في الصباح لإتمام المهام اليومية، سيخبو مع أول قبضة قوية تمسك بالهاتف، وضغطة أقوى تنقر على فيسبوك أو انستغرام. مباشرة بعدها يتم سحب القلب والعقل في دوامة من المنشورات والصور ومقاطع الفيديو التي لا تنتهي. ولا يُنقَذ أحد منها إلا بضربة على الرأس من زميل الدراسة أو مدير العمل.
لماذا هذا الإدمان الشديد؟ كيف تحولت منصات التواصل الاجتماعي من مقاهٍ إلكترونية، إلى أسواق كبيرة مليئة بالمنتجات –التي تبدو- مجانية؟
ما هدف منصات التواصل الاجتماعي فعلًا؟
في بدايات إنشاء تلك المنصات بشكل عام، كان الهدف الوحيد هو جمع الناس في مكان واحد، وتسهيل التواصل بين بعضهم البعض. الهدف فعلًا كان: (التواصل الاجتماعي).
فيسبوك، تويتر، واتس آب، فايبر، انستجرام، سناب شات، BBM قديمًا، وغيرها وغيرها وغيرها، كلها منصات أخذت فكرة البريد الإلكتروني إلى المستوى التالي. فبدلًا من استخدام Yahoo لإرسال بريد إلى صديقك لتنبهه أن أستاذ محاضرة الغد لن يأتي، ثم تكرار الرسالة في عشرات الـ CC، يمكنك استخدام فيسبوك مسنجر لإرسال نفس الرسالة لنفس الأشخاص، عن طريق تحديدهم كلهم دفعة واحدة. أو يمكنك جمع كل زملائك في مجموعة مغلقة، وتبادل الآراء بسهولة ويسر، دون حاجة إلى إرسال كل شيء بطريقة يدوية ومملة.
تلك المنصات كانت طفرة في بداية ظهورها، واستطاعت التوسع والامتداد بسرعة شديدة. فظهر الكثير من المقلدين على الساحة، أو كما يُطلق عليهم بالمصطلح الدارج Copy-Cats. أغلبهم فشل بعد وقت، والمنصات التي استمرت، هي التي استطاعت تبني نموذج عمل رأسمالي.
أجل.. الأموال دخلت في الموضوع..
رأسمالية المكافأة
في الجسد البشري، هناك ما يُعرف بنظام المكافأة – Reward System. إذا أجبت مسألة أمام الطلبة في الصفّ مثلًا، سيصفق لك المعلم، وهنا سوف تبتسم لا إراديًّا. نفس الأمر يحدث عند الاعتراف بالحب لأحدهم، شراء جهاز جديد انتظره المرء منذ سنين، أو حتى الدخول في نوم عميق وهادئ بعد يوم مرهق ومتعب.
السعادة الناتجة عن تحقيق الهدف أو الراحة، هي سعادة هرمون الدوبامين. وهو هرمون يُفرز مباشرة لإشعار المرء بالهدوء والغبطة. فكلما تم تنفيذ إنجازات صغيرة باستمرار، بات إفراز الدوبامين أيضًا مقدمًا من الغدة باستمرار.
مواقع التواصل تعتمد على نفس الآلية الربحية للجسد البشري. تعمل المواقع على تغذية الإنسان بكل ما قد يثير اهتمامه، وذلك بعد دراسة سلوكه في أكثر من موقف، ثم تحليل كل النتائج عن طريق خوارزميات الذكاء الاصطناعي، لتظهر في النهاية منشورات وإعلانات متوافقة مع اهتماماته بالضبط.
فإذا كان المستخدم يحب شخصًا ما، فبالتأكيد يفتح صوره باستمرار، ويدقق فيها النظر لدقائق طويلة (وربما لساعات)؛ هنا تعرف الخوارزمية أن الشخص صاحب الصورة، هو مصدر تحفيز نظام المكافأة لدى المستخدم. فبالتالي تظهر صور هذا الشخص (وأشخاص آخرين لهم نفس الهيئة الجسدية أو الملامح أو الأسماء) باستمرار، فيطيل النظر في صورهم، ويبقى في الموقع لفترة أطول.
وبالطبع بعد إطالة وقت الاستخدام، من السهل جدًا إدراج عشرات الإعلانات بين كل منشور والآخر، ليتحول الدوبامين من مصدر لسعادة المستخدم، إلى مصدر لأموال صاحب المنصة. وهنا تتحقق المقولة الأشهر على الإطلاق في مجال رأسمالية التكنولوجيا:
إذا رأيت خدمة مجانية؛ فاعلم أنك أنت السلعة.
تحفيز نظام المكافأة مثل تحفيز الإدمان
لكن يأتي السؤال البديهي للغاية: لماذا الدوبامين جيد عندما يُحفز عن طريق الحياة الواقعية، وسيء عندما يُحفز عن طريق الميديا؟
الفكرة كلها تقبع في استمرارية خروج الدوبامين. في الأساس هذا الهرمون مثله مثل أي عقار آخر يُنتجه الجسم طبيعيًّا، له معدل طبيعي من الإفراز، كي لا يتحول إلى إدمان. فإذا قام شخص ما بأخذ دواء يحوي عقارًا قويًّا، ينصحه الطبيب بأخذ نصف قرص كل 4 أيام مثلًا، نظرًا لمدى ترابط هذا العقار مع الجهاز العصبي.
الدوبامين قوي، وخروجه باستمرار (عبر مؤثرات متجددة ومتعاقبة بسرعة) سيجعل الجسم في حاجة قهرية إليه؛ بنفس معدل توافد المؤثرات على العقل. وعندما يتوقف إفرازه في أي وقت (أخذ الهاتف من قِبل أحد الوالدين)، تبدأ أعراض الانسحاب في الظهور. وتلك الأعراض تتمثل في تشنج عصبي، ملل، ورغبة ملحة في الحصول على مُحفز إفراز الهرمون.
وفي هذه الحالة، المُحفز هو مواقع التواصل، حيث أنها تحتوي بالضبط على كل ما يهم المستخدم، ويدفع الدوبامين في شرايينه دفعًا. مع الوقت، سيصبح ترك الهاتف من المستحيلات، وسيُبرر المرء ذلك الإدمان على أنه حاجة ماسة لإمكانات الهاتف؛ من تواصل وقراءة رسائل وإتمام أعمال.
لكن الواقع مأساوي جدًا، الواقع ينطوي على إدمان حقيقي لدوبامين نتائج خوارزميات الذكاء الصناعي. وعندما يصير الإنسان عبدًا للتكنولوجيا، يقل تعامله المباشر مع بني جنسه.
كم من مرة رأيت أحدهم يلعب مع قطته الصغيرة في المنزل، وفجأة وبينما يداعبها؛ أمسك هاتفه لنصف ساعة على الأقل، حتى ملّت القطة وتركته؟
مواقع التواصل لم تقضِ فقط على التواصل البشري، بل قضت على التواصل مع أي كائن حي حتى.
صراعات وهمية مع الذات والآخرين
بعيدًا عن الإدمان، فتلك المواقع أيضًا تخلق صورة زائفة عن النفس، والآخرين. فمنصة مثل انستغرام، أغلب مَن عليها هم نسخ محسنة (بالفلاتر) من أنفسهم. هؤلاء لا يُظهرون أنفسهم بالطريقة التي يظهرون بها للآخرين في الشارع، أو يظهرون بها أمام أهلهم في المنزل. هذه الأشكال المزيفة تصيب المرء بالعجز والحسرة وخيبة الأمل. مباشرة سوف يسأل نفسه: هل أنا قبيح؟ لماذا هم أجمل مني؟ لماذا هم أكثر حظًا مني؟ لماذا تحبهم الناس هكذا بينما أنا مكروه ومنبوذ؟
ونتيجة لعدم تقبل الذات، سيعاني الإنسان من تقلبات نفسية شديدة الخطورة، وقد تصل في بعض الأحيان إلى الاكتئابين؛ الحاد أو المزمن. ونظرًا لوجود غياب دعم الأسرة بسبب انسلاخ الشاب أو المراهق عنهم بمساعدة تلك المنصات، لن يبقى أمامه إلا محاولة تقليد الذين تسببوا له في تلك الآلام. وبذلك يصير نسخة جديدة منهم، يصبح مسخًا جديدًا، ويبيت دمية جديدة في عالم السيرك الإلكتروني الذي لا يكف عن الحركة.
فيلم The Social Dilemma
في 2020، أصدرت نيتفليكس فيلم بعنوان (المعضلة الاجتماعية)، وسلطت فيه الضوء على مضار مواقع التواصل الاجتماعي على حياة البشر. واستطاعت المزج بين الأسلوب السينمائي في تقديم القصص الجاذبة، والأسلوب التقليدي في تقديم الأفلام التسجيلية. ليخرج العمل الفني في هيئة مبهرة للجميع، وصادمة لهم أيضًا.
تميز الفيلم بجلب رؤوس أقلام عالم التكنولوجيا، وحرص على عمل أكثر من لقاء مع مسؤولين سابقين في منصات تواصل اجتماعي عملاقة مثل فيسبوك وتويتر. بجانب دعم كل ما يُقال عن طريق المحاضرات والتصريحات التلفزيونية المُذاعة سابقًا؛ والمُدرجة في سجل اليوتيوب العالمي، ومتاحة للجميع في أي وقت ليتأكدوا من صحتها.
هل تلك المنصات بهذا السوء؟ ألا توجد إيجابيات؟
بالتأكيد لا، حاليًّا منصات التواصل الاجتماعي لها الكثير من الفوائد. في البدايات، استطاعت لم شمل الأسر التي تشتت أفرادها في القارات، بل وجمعت أبناء النسل الواحد من مختلف بقاع العالم. وهذا جعلها حجر زاوية في الرؤية الشمولية للإنسان كإنسان، بغض النظر عن لون بشرته أو عرقه أو ميوله الشخصية.
استطاعت المنصات إذابة الفوارق الاجتماعية، وفتحت الثقافات كلها على بعضها البعض. فإذا قيل عن الإنترنت أنه جعل العالم قرية صغيرة، فالمواقع مثل فيسبوك وتويتر وغيرها، استطاعت أن تجعل العالم غرفة معيشة صغيرة.
كما أن لها دور كبير في طمأنة الناس على أحبائهم عند وقوع كارثة طبيعية في أي مكان، بجانب تمكين المؤسسات الخيرة من جمع التبرعات إلكترونيًّا لعلاج المصابين ودعم المحتاجين. بالإضافة إلى جعل التبرع بالأعضاء أسهل، نظرًا لسهولة التواصل بين المتبرع وأهل المتلقي من خلال الشات، المكالمات، أو حتى قراءة المنشورات في الصفحات والمجموعات المغلقة أو المفتوحة.
وفي جائحة كورونا التي يمر بها العالم هذه الأيام، أصبح فيسبوك تحديدًا بمثابة قناة تواصل بين الناس والمؤسسات الصحية الرسمية في جميع دول العالم، لضمان الوصول لمعلومات صحيحة وغير مفبركة.
كما أنه يقوم بعمل صفحة إشعارات كاملة بجديد أرقام الإصابات وحالات الشفاء، مع الحرص على تشجيع المستخدم على التبرع بالدم؛ وذلك عبر إظهار مراكز التبرع التي في حاجة إلى فصائل دم معينة في الوقت الذي يفتح فيه التطبيق.
مواضع التواصل مجملًا مثل سكين المطبخ. يمكنها أن تقدم لك أشهى الأكلات، ويمكن أيضًا أن تضرك إذا حدقت فيها لفترة طويلة؛ وطالتك بسببها الهواجس الانتحارية بالضرب والتنكيل.