عالم تنقطع أنفاسه

سالم العوكلي

فيروس كوفيد 19 متناهي الصغر لدرجة أنه من الممكن أن يعيش طفيلي على البكتيريا التي نحتاج إلى تكبيرها 100 مرة لنراها مثل رأس الدبوس، صغير لدرجة العدم لكن تأثيره بحجم الكرة الأرضية، وما يفعله هذا الفيروس المتطفل على الخلية البشرية ربما يعادل ما تفعله في حرب عالمية ثالثة أو حرب نووية. كما يقال هو ليس فتاكا مثل فيروسات ظهرت في السابق وانتهت، وكما يقال انتقل للإنسان عن طريق الخفاش، لكن الخفاش لم يدخل اسمه أرشيف الأوبئة مثلما حدث في تسمية فيروسات عائلة كورونا السابقة: إنفلونزا الطيور ، أو إنفلونزا الخنازير، وتحاشى القائمون على إطلاق التسميات على الأوبئة تسميته إنفلونزا الخفافيش. ربما لما يحمله وصف خفاش من حمولات مهينة حين يطلق على بشري: ولعل هتاف اللجان الثورية المعروف (اطلع يا خفاش الليل .. جاك السابع من أبريل) الذي كان يتردد سنويا مصحوبا بالمشانق في الحرم الجامعي يثبت ما لهذا الكائن الليلي من وقع سيء في الذاكرة الإنسانية.

حين منع التجول ليلا في بعض المناطق الليبية فكرت ربما لأن فيروس كورونا قادم إلينا من الخفاش فهو لا يخرج إلا في الليل مثله مثل مستضيفه الأصلي، وكانت مجرد مزحة لا تمت لواقع الأمر بصلة، غير أن هذا الفيروس المتناهي الصغر يعمل بمثابرة طوال الليل والنهار، ويتمدد ليصبح بحجم الأرض عبر ما يتركه فيها من فزع وخوف، مخدوما بميديا إلكترونية يحركها جزيء غير مرئي أصغر من الفيروس وهو الإلكترون. الفيروس والإلكترون غير المرئيين يتضافران لاكتساح العالم بالخوف.

الخوف العالمي الذي تولد عن وباء لأول مرة تواكبه ثورة المعلومات جعل البعض يشكك في طبيعة هذه الجائحة وما رافقها من مخيال جعلها حديث الساعة على كل شاشات العالم، وتظل أسرار عديدة تحيط بطبيعة وسلوك هذا الفيروس والمحاور التي اختارها في جبهات العالم لتوجيه ضرباته القوية كما تخبرنا وسائل الإعلام يوميا.

نشأ الفيروس في الصين، دولة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، انتقل إلى اليابان ثم كوريا الجنوبية، ثم الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة، وأكبر حالات سجلت في المنطقة العربية كانت في المملكة العربية السعودية، تجنب ماينمار وبنغلاديش في آسيا وشد رحاله للقوى الاقتصادية الكبرى بسرعة قياسية، وطريق الفيروس هذه المرة غير طريق الحرير، وكأنه يتبع طريق تداعيات الأزمة الاقتصادية التي حصلت العام 2008 ، ما يثير سؤالا كبيرا، وأسئلة أخرى تتعلق بمدى حدة الإجراءات التي اتخذت ضده، فمثلا اليابان التي لم تقفل مؤسساتها ولم تحظر التجول وكذلك السويد، وروسيا البيضاء الذي خاطب وزير خارجيتها شعبه قائلا: احتسوا الفودكا وأغسلوا أيديكم بها، وبعد فترة سأقول لكم كلاما ممتعا. هذه الدول، على سبيل المثل، لم ينتشر بالكثافة التي انتشر بها في الدول التي أقفلت كل شيء ومنعت التجول واتخذت أكثر الإجراءات صرامة.

بعض الدول المتهالكة التي لا تملك أي نظام صحي أو نظام اجتماعي مضاد لمثل هذه الحالات لم تسجل فيها إصابات أو سجلت بالعشرات أو المئات.

المشاهير وذوو المناصب الكبرى أصيبوا ولم يمت منهم أحد وكلهم يتحدثون وهم مبتسمون عن أعراض طفيفة.

فماذا يحدث؟ وما هي استراتيجية هذا الفيروس الذي ربما حُددت سلالته الجينية لكن لم تحدد هويته السياسية أو الأيديولوجية التي يتنقل وفقها في هذا العالم. فيروس مراوغ يمثل سلوكه عديد الأيديولوجيات التي تصارعت فوق الأرض ونكلت بالملايين من البشر.

فهو من ناحية فيروس ديمقراطي لا يفرق بين دولة قوية ولا دولة ضعيفة، بين ملياردير أو أمير ومتشرد ينام على الرصيف، وهو فيروس لا ديني استطاع أن يقفل المعابد ويعلق الكثير من العبادات ويشكك في بعض الاعتقادات الراسخة، وهو علماني استطاع خلال شهرين أن يفصل الدولة عن الدين في أكثر المجتمعات تدينا، بل يجعل من قرارات الدولة أكثر قدسية من فتاوى الدين. وهو فيروس نازي النزعة يفتك بالعجزة وضعاف الأجسام ويتحاشى الأطفال والشبان الأقوياء. وهو فيروس متشدد يمنع الحفلات الموسيقية ويقفل البارات ومحلات التبغ والمراقص وملاعب كرة القدم ويترك خلفه مقابر جماعية حيثما مر.

إنه نموذج لتناقضات التاريخ الذي يبشر أو ينذر بعالم ما بعده ستتغير فيه الكثير من الثوابت، وتنقلب فيه مؤشرات السعادة ، ويعود لشجن الاقتصاد الإنتاجي بعد أن هيمنت اقتصاديات البرمجيات الرقمية والأسلحة والمخدرات على أكثر من نصف أرقام اقتصاد العالم الذي اكتشف فجأة أن خدماته الصحية وسعته السريرية عاجزة عن مواجهة هذه الجائحة.

عالم انقطعت أنفاسه، كان يفكر في أجهزة للتنفس فوق المريخ فأصبح جل تفكيره على أجهزة التنفس فوق الأرض.