ظلال الظل
عمر أبو القاسم الككلي
الظل قرين الضوء أو النور ونقيضه. فلا ظل بدون ضوء “وحيث يكون الضوء قويا، يكون الظل كثيفا”، مثلما يقول غوته. هو صنيعة الضوء وتابعه. وعند انطفاء الضوء وغياب النور، يذوب الظل في جسد أخيه الكبير، أو، إن أحببت، يعود إلى رحم أمه: الظلام، أو الظلمة: بيئة الأسرار والمخاوف والجرائم، وكذلك لقاءات العشاق المقموعين، حيث يكتم الدجى “سر الهوى”، وحيث معاناة ضنى الشوق والنوى واحتدام نار الوجد، إذ “م المغر تقوى نارا… جرحك يا الِّي بعيدة دارا”.
والظل أكثر التصاقا بحياتنا مما نعتقد. فنحن نلجأ إليه عند اشتداد الحر. لكننا لا نستفيد من ظلالنا. كنت أقول لمن معي مازحا عندما نكون في مكان يشتد فيه الحر وتغيب فيه الظلال: “لا يمكن للإنسان الاستظلال بظله، مهما كان حجم ظله”. لذا يمثل الظل، إلى جانب الماء والشجر، “مادة” ثمينة للإنسان الذي يغالبه قيظ الصحراء، إلى درجة أنه يمكن أن يشتريه بأعلى الأسعار، لو كان من طبيعة الظل أن يباع ويشترى.
لكننا نفر من الظل عند اشتداد البرد. يوجد تعبير شعبي ليبي نقول فيه للصديق الذي يأتينا فجأة وبيننا مزح ومباسطة: “أهلا، أهلا، بالظل في الشتى!”.
كما أن تحول ظل الأشياء حسب وضعها من الشمس يساعدنا على تقدير الوقت بشكل تقريبي.
للظل أيضا بعد رمزي. ففي علم النفس يستخدم الظل للإشارة إلى “أنانا” البديل. أنانا الخفي الذي نتجنب أن يطلع عليه الآخرون. وفي السياسة نطلق تعبير “حكومة الظل” في البلدان غير الديمقراطية، على “الحكومة العميقة” الخفية، حكومة الظلام، التي تدير الدولة فعلا وتكون “حكومة الضوء أو النور”، الحكومة الظاهرة المنظورة، مجرد واجهة لها. وهنا يرتبط الظل بالخفاء والاستسرار والمؤامرة، ويكون مفهومه أقرب إلى مفهوم الظلام.
نريد أن نختم هذا المقال بطرفة استخدم فيها الظل استخداما إبداعيا لحيازة معرفة لم تكن حيازتها ممكنة حينها بغير هذه الوسيلة العبقرية. يروى أن الفيلسوف اليوناني طاليس (624؟ – 546؟) كان في مصر وكان يزور الأهرام ويتأملها، فأحب أن يعرف ارتفاع الهرم. تفتق ذهنه عن حيلة بارعة باهرة. أخذ عودا وغرزه في الأرض بشكل عامودي، ثم قاس ظله، فوجده يساوي نصف ارتفاع العود. عندها قام وقاس ظل الهرم، وضربه في اثنين.
* “في ليالٍ كتمت سر الهوى، بالدجى، لولا شموس الغرر”. لسان الدين بن الخطيب.
** مطلع أغنية شعبية ليبية شهيرة.