طريق ضيق إلى عمق الشمال (7)
ماتسو باشو
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
محطة (21): ماتسوشيما
لقد امتدحت عجائب جزر ماتسوشيما كثيرا. وإذا ما بقي مجال لمزيد من الامتداح، فإنني أود القول إنه هنا يوجد أجمل موقع في اليابان بأسرها، وأن جمال هذه الجزر لا يقل عن جمال بحيرة دوتيي أو بحيرة سييكو في الصين. تقع الجزر في خليج سعته حوالي ثلاثة أميال في الاتجاهات جميعها وينفتح على البحر بفم ضيق في جانبه الجنوبي الشرقي.. ومثلما يطفح نهر سٍكّو في الصين عند كل ارتفاع في المد، يمتلئ هذا الخليج أيضا بالمياه الفائضة من المحيط، وعدد من الجزر يصعب إحصاؤه تنتشر في كل نواحيه. الجزر المرتفعة تتجه إلى السماء، أما الجزر المنخفضة فتنطرح أمام عرامة الموج. جزر تتكدس على جزر، وجزر تتصل بجزر، حتى لتبدو كآباء وأمهات يربتون على أطفالهم، أو يسيرون معهم يدا بيد. خضرة أشجار الصنوبر من الأشد غضارة وفروعها تنعطف مشكلة خطوطا فاتنة وهي تنحني بفعل الريح التي تهب خلالها باستمرار. حقا، جمال المشهد بمجمله تمكن مقارنته فقط بملامح أنثوية حظيت بعناية إلهية. فمن يمكنه أن يبدع هذا الجمال سوى إله الطبيعة العظيم نفسه؟. تحرك قلمي عبثا لمضاهاة هذا الإبداع المهيب من الفن الإلهي.
جزيرة أوجيما حيث نزلت كانت في الواقع شبه جزيرة تضرب بعيدا في البحر. كان هذا هو المكان الذي اعتكف فيه مرة الراهب أنغو، والصخرة التي اعتاد الجلوس عليها أثناء التأمل مازالت موجودة. انتبهت إلى وجود عدد من الأكواخ الصغيرة تتوزع بين أشجار الصنوبر وخيوط من الدخان الأزرق الفاتح تعلو منها. تساءلت عن طبيعة الناس العائشين في هذه البيوت المنعزلة، وكنت أقترب من واحد منها بإحساس غريب بالرثاء عندما، كما لو أنه تعمد مقاطعتي، ارتفع القمر متألقا في البحر الآخذ في الإظلام مكملا التحول التام للمشهد إلى مشهد ليلي. آويت إلى خان مشرف على الخليج، وصعدت إلى غرفتي التي كانت نوافذها كلها مفتوحة. وأثناء استلقائي هناك وسط زفير الريح والسحب النشطة، شعرت بأنني في دنيا مختلفة كلية عن تلك التي تعودتها. مرافقي سورا كتب:
أيها الديك ذو الصادح،
أنت أيضا تحتاج
أجنحة الغرنوق الفضية
لتحيط بجزر ماتسوشيما.
من جانبي حاولت أن أنام، كابحا العواطف الجياشة داخلي، إلا أن انفعالي كان غلابا. تناولت بتكاسل دفتري من خرجي وقرأت قصائد أعطاها لي أصدقائي عند مغادرتي – قصيدة صينية كتبها سودو، واكا كتبها هارا أنتيكي، هايكو كتبها سامبو وداكوشي- كلها كانت عن جزر ماتسوشيما.
في اليوم الحادي عشر ذهبت إلى معبد زوغانجي. أقيم هذا المعبد من قبل ماكابي نو هيشيرو بعد أن صار راهبا وعاد من الصين، وتم توسيعه بعد ذلك من قبل الراهب أنغو ليصبح معبدا هائلا بفتحات مهيبة مطلية بالذهب. الراهب الذي التقيته في المعبد كان الثاني والثلاثين في سلالة المؤسس. تساءلت داخلي أيضا أين يمكن أن يكون معبد الراهب كنبستو الذي يحظى بإعجاب كثير.
محطة (22): آيشينوماكي
توجهت إلى هيرايزومي في اليوم الثاني عشر. رغبت في رؤية شجرة الصنوبر في آنيها وجسر أودايِ في طريقي. لذا سلكت المسرب الجبلي الوحيد الذي مهدته أقدام الصيادين والحطابين. لكنني لا أدري كيف ضللت طريقي ووجدت نفسي في ميناء آيشونوماكي. يقع الميناء في خليج واسع تستلقي فيه جزيرة كنكازان ومنجم ذهب قديم اشتهر زمنا بأنه “يزهو بأزهار الذهب”. كان ثمة مِئات السفن، كبيرة وصغيرة، راسية في المرفأ وما لا يحصى من ألسنة الدخان ترتفع باستمرار من البيوت المتراصة على الشاطئ. كنت سعيدا برؤية هذا المكان المزدحم، بالرغم من أنني جئته بمحض الصدفة، وشرعت بالبحث عن مكان ملائم لمكوثي. من الغرابة بمكان أنه ما من أحد عرض عليَّ أن يستضيفني. بعد طول تقصٍ وجدت بيتا بائسا. الصبح التالي، بعد تمضيتي ليلة غير مريحة، همت مجددا في طريق مجهول تماما بالنسبة إلي. ناظرا إلى مخاضة نهر سودي ومرج أوبوتشي وامتداد نباتات البمباس السبخ في مانو، مضيت عبر الطريق الذي يمثل سدا لنهر. قضيت ليلتي في تويما حيث ينتهي النهر الطويل الضحل، ثم وصلت هيرايزوما بعد مسيرة حوالي عشرين ميلا وتوهان يومين.