طريق ضيق إلى عمق الشمال (5)
ماتسو باشو
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
محطة (15): ليزوكا
توقفت ليلا في ليزوكا. استحممت في نبع ساخن قبل أن آوي إلى خان. كان مكانا متسخا تنتشر به حشيات قشية خشنة مفروشة على الأرضية. كان عليهم تجهيز فراشي على ضوء النار الخافت، لأنه لم يكن يوجد أي مصباح في الخان بكامله. عند حوالي منتصف الليل هبت علينا عاصفة، وبسبب ضجة الرعد والقطر وغارات البعوض والبراغيث، لم أتمكن من نيل سِنَة. أكثر من ذلك، نوبة مرضي القديم جعلتني شديد التعب وعانيت معاناة حادة من النوبات المتكررة وأنا على ظهر حصاني متجها نحو بلدة كوري. إنه لشيء رهيب حقا أن أكون مريضا مرضا شديداعلى الطريق وما زالت أمامي آلاف الأميال، لكنني عندما فكرت أنه إذا قيض لي الموت في طريقي نحو الشمال النائي فذلك حظي، مضيت في الأرض بما قدرت عليه من عزم فوصلت بوابة أوكيدو في إقليم ديت.
محطة (16): كاساجيما
مضيت خلال بلدتي القصور أبوميزوري وشيرويشي، ووصلت إقليم كاساجيما وسألت عن الطريق إلى قبر الإقطاعي سانيكاتا من أسرة فيوجيوارا، فقيل لي أنه عليَّ الذهاب يمينا والتوجه إلى قريتي ميناوا وكاساجيما اللتين تمكن رؤيتهما عند قدم الجبل عن بعد، وأن القبر ما زال موجودا بجانب المقام مغطى بالأعشاب الطويلة. رغبت في الذهاب فورا بالطبع، إلا أن الطريق الموحلة عقب المطر الباكر لموسم الأمطار وضعفي شخصيا، منعاني.
اسما القريتين كانا متوائمين مع موسم الأمطار، لأنهما يتصاديان مع معطف المطر والمظلة، فكتبت:
إلى أي مدي ينبغي عليَّ المضي
إلى قرية كاساجيما
على الطريق الموحل
بداية موسم الأمطار؟.
بت ليلتي في آيونوما.
محطة (17): تاكيكوما ىو ماتسو
طفر قلبي فرحا حينما رأيت شجرة الصنوبر المشهورة في تاكيكورما. فرعاها متشكلان كما وصفا من قبل الشعراء القدامى. تذكرت مباشرة الراهب نوين الذي حزن عندما وجد في زيارته الثانية أن الشجرة قد قطعت ورميت في نهر ناتوري كي تكون جسرا باقتراح من حاكم الإقليم المعين حديثا. هذه الشجرة غرست، قطعت، وأعيد غرسها عدة مرات في الماضي. ولكن حين أتيت كي أراها كانت على هيئتها الأصلية بعد انقضاء ربما ألف سنة. كانت على أجمل شكل يمكن أن يتصوره المرء لشجرة صنوبر. الشاعر كايوهاكو كتب قصيدة وهو يودعني عند رحيلي معبرا فيها عن تمنياته لي بالتوفيق في رحلتي:
لا تنسَ أن تري سيدي
صنوبرة تاكيكوم الشهيرة،
الإزهار المتأخر لكرز
الشمال البعيد
القصيدة التالية كتبتها ردا عليه:
ثلاثة أشهر بعد رؤيتنا
أزهار الكرز معا
جئت لأرى الفرعين التوأمين
لشجرة الصنوبر البهية.
محطة (18): سنداي
وصلت مدينة سنداي، بعد عبوري نهر ناتوري، في 4 مايو، وهو اليوم الذي اعتدنا أن نرمي فيه أوراق السوسن الغضة فوق السطوح ونصلي من أجل صحة طيبة. عثرت على خان وقررت البقاء هناك لبضعة أيام. كان يسكن في هذه المدينة رسام يدعى كايمون. بذلت جهدا متميزا من أجل زيارته، لأنه كان مشهورا بأنه رجل ذو عقلية فنية حقيقية. أخذني ذات يوم إلى أمكنة مختلفة مثيرة للاهتمام كان يمكن أن تفوتني رؤيتها لولا عنايته. ذهبنا أولا إلى سهل مايجينو حيث حقول شجيرات البرسيم كانت تنتظر الإزهار في الخريف. وكانت تلال تمادا ويوكونو وتستسوجي-غا- أوكان مغطاة بالوردية البيضاء المزهرة. بعدها دخلنا غابة صنوبر معتمة تسمى كونوشيتا حيث لا يمكن حتى لأشعة الشمس اختراقها. أكثر البقاع عتمة على الأرض هذه كثيرا ما كانت مادة للشعر بسبب نداها. مثلا، أحد الشعراء يقول إن سيده يحتاج إلى مظلة لتحميه من قطرات الندى حين يدخل هذه الغابة.
توقفنا أيضا عند مقامات ياكوشيدو وتنجن أثناء عودتنا إلى البيت.
عندما حان موعد الوداع، أعطاني هذا الرسام رسوماته لماتسوشيما وشيغاما وحذاء قشيا بخيوط صبغت بلون أزرق سوسني غامق. في هذا الحذاء يظهر، أجلى ما يكون الظهور، ربما، الطبع الفني الحقيقي لهذا الرجل.
يبدو كما لو أن أزهار السوسن تفتحت على قدميَّ- حذاء مربوطا بالأزرق