صندوق أمي وكوابيس أبي
سالم العوكلي
عشت نصف قرن لم أشهد فيه حربا أو وباءً، في ظل خدر مريح بكونها أصبحت مثل الحديث عن الغولة من خرافات الماضي، وكأساطير كثيرة نستمتع بسردها مع يقين أنها لن تحدث لنا، وحين كان أبي يُخزن الطحين والأرز في مخزن البيت خوفا من الحرب كنا نتندر عليه، ونعتقد أنها كوابيس تخصه، هو من عاش زمن الحروب والجوع والأوبئة وخبرها جيدا:
ما كل هذا الطحين يا أبي؟ هل تريد أن تفتح متجرا؟ يقول ما ترجمته بالفصحى: لعل حربا تندلع أو وباء يتفشى أو مجاعة؟
من سنوات قليلة حين تلاشى الخبز، وصرت أبحث عن الطحين ولا أجده، تذكرت كابوس أبي الذي رحل وهو محتاط تجاهه.
دولتي أكبر مني بتسع سنوات، وأصغر من أبي بخمسين سنة، لم أحضر ميلادها، وكل ما أتذكر من ملامحها الطفولية صورة الملك إدريس السنوسي معلقة بداخل غطاء صندوق أمي المزخرف (بورنة) أو السحارية كما كانت تسميه، كانت تضع فيه أثمن ما تملك: أرديتها البراقة، قطع قماش الكوفيت وقليب شادية، العبروق الملون، حِليّها من الفضة، وزجاجة من عطر القرنفل، وصورة الملك إدريس الذي كانت تحلف به (وحق سيدي إدريس طلّاق المحابيس).
من ملامح تلك الدولة التي قُتِلتْ في عز صباها، أذكر يوما قائظا كنت أرعى فيه قطيع ماعز بقرب الطريق المُعبّد الذي شقه الحاكم الفاشي إيتالو بالبو من غرب ليبيا إلى شرقها، كان القار المتجمع في حفر صغيرة يسخن ويسيح، فيطيع أصابعنا كي نجلخه ونمضغه كلُبان أسود في زمن لم تصلنا فيه بعد أنواع العلكة المحلاة المعطرة، ولأني لم أستطع نزعه بسبابتي سجدت على ركبتي كي أنزعه بأسناني اللبنية، كانت ريح القبلي تطبق على كل شيء وبالكاد سمعت صوت زمور فوق رأسي، وحين رفعت عيني وجدت شبحا ضخما فوق جواد معدني تبرق عيناه خلف قناع من الزجاج تحت قبعة بيضاء لامعة مثل فطر ضخم، ولم يخطر على بالي لحظتها سوى الغولة التي كنت أسمع الأحاديث عنها دون أن ألتقي بها. نهرني الشبح فركضت مسرعا وقبعت خلف صخرة صغيرة أرقب رتل سيارات سوداء قادمة خلف الموتوسيكل. في واحدة من تلك السيارات كان الملك إدريس جالسا في المقعد الخلفي خلف زجاج شفاف شبيها بالصورة على غطاء صندوق أمي. وكان ذلك بعد 14 سنة من عمر دولتي و5 سنين من عمري.
ما أذكره جيدا هو يوم انقلاب أول سبتمبر 1969 والتصاق أبي بالراديو يستمع لتلك البيانات المتتالية التي تتخللها موسيقى عنيفة، ولم أعرف وقتها ما حدث، ولكن أحسست أنه أمر سيئ بسبب حزن أبي الواضح، أنا الواثق دائما في أحاسيس أبي الذي يعرف ماذا قدّم الملك لهذا الوطن بعد أن مات شقيقاه في معارك ضد الطليان وعاش مع شقيقيه الآخرين وشقيقته الوحيدة آلام وجوع معتقل البريقة.
فرح معظم الليبيين بما سمي ثورة الفاتح، وبالفتية الصغار الذين تقلدوا مسؤولية دولة وهي في عز مراهقتها، وكل شيء يقول إنهم من سلالة عبد الناصر الذي اكتسح بكاريزماه وشيفونيته القومية وجدان الوطن العربي الطيب، في الوقت الذي كان فيه قلة من النخبة يتوجسون من هذا المصير السياسي بعد حقبة استعمارية ونظم وراثية شاخت، ولا أفق لدولة مدنية ديمقراطية أمام هذه الفاشية القومية المتطرفة التي تاجر بها كل من انقلبوا على النظم الوراثية، وكانت فلسطين ورقتهم الرابحة التي طرزوا بها خطاباتهم الحماسية ووعدوا الجماهير بتحريرها.
في العام 1976 كنت في الصف الثالث إعدادي مسؤولا عن الإذاعة المدرسية، أكتب كل يوم كلمة الصباح، وحين تستعد طوابير الطلاب في فناء المدرسة أضغط بعدها على زر تشغيل آلة التسجيل كي أطلق موسيقى النشيد الوطني المصري الغاضب الذي تبناه النظام الليبي الجديد، وفي استراحة الإفطار كنت أملأ الساحة بأغاني المطربة البدوية سميرة توفيق حيث كان الكاسيت الوحيد المتوفر.
ذات صباح ألقيت كلمة الصباح وقام المشرف على الطوابير بتجهيزها، أمر الطلاب بوضع الاستعداد وأشار لي من خلف النافذة كي أطلق النشيد الوطني، ضغطت على زر الكاسيت فانطلق صوت سميرة توفيق في أغنية (بيع الجمل يا علي)، لم أنتبه إلى أني لم أغير الشريط في جهاز التسجيل، ارتبكت وارتبك مشرف الطوابير، بينما دب الاضطراب في الطوابير الواقفة بورع تنتظر نشيد الله أكبر. ارتباكي جعل الأغنية تعمل لمدة نصف دقيقة قبل أن أطفئها، بدلت الشريط بأصابع مرتجفة وأطلقت عنان النشيد، ثم حملت حقيبتي وأطلقت ساقي للريح هاربا من المدرسة، تمارضت اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث جئت منتظرا عقاب جريمة سياسية، لكن لا أحد من المعلمين أو الناظر أو التلاميذ تحدث عن الأمر، لقد نُسي تماما كما تُنسى في ذلك الوقت أشياء كثيرة، وكانت مدرسة في ذلك الوقت تسمح بأغاني سميرة توفيق في الاستراحة قادرة على التسامح مع خطأ إذاعي صغير.
هذه الحادثة كانت في أبريل 1976 وفيما بعد عرفت أنها متزامنة مع الانتفاضة الطلابية في بنغازي وشنق بعض الطلاب في الجامعة والساحات العامة، لكنها مجرد مصادفة، ولم أكن أعرف ذلك لأصبح بطلا متهكما استبدل بسبب هذه الأحداث النشيد الناصري بأغنية بيع الجمل يا علي. ولم أعلم بهذه المذبحة إلا بعد سنوات، وكلما يذكره الإعلام الليبي المتمثل عندنا في الراديو أن ثمة أعداء للشعب والثورة أُعدِموا أو سُجنوا، والأغلبية كانت تصدق الراديو الذي تربوا معه عبر قناة البي بي سي، وكانوا يُصدّقون أن هؤلاء الطلاب الجامعيين في سن العشرين كانوا يحاولون الانقلاب على الحكم وبث الفوضى والتآمر مع جهات أجنبية.
كلما أعرفه أني كنت لا أحب القذافي، لسبب واحد كافٍ، لأني أحب أبي وأبي لا يحبه. العام 1982 وتزامنا مع اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان كانت حفلات الشنق في الشوارع والميادين تنقل مباشرة على التلفزيون طيلة شهر رمضان، وكان أبي يَصْفق يديه وهو يردد: حتى الطليان لم يفعلوا هذا. كان الشانقون المتحمسون من اللجان الثورية يتعلقون بالضحايا حتى يموتوا من الاختناق، أو يصفعونهم على وجوههم، أو يبصقون عليهم، وكانت فاشية محلية تنمو بإطراد أعتى من الفاشية الموسيلينية الأصلية كما عبّر أبي الذي ذاق مرارة الفاشيتين، وكنت فيما بعد أتفاعل مع عبارة الماغوط التي قالها غوار، في مسرحية ضيعة تشرين، وهو يبكي من آلام الفلقة: “لما يضربك الغريب شكل ولما يضربك ابن بلدك شكل”.
وطيلة هذه الفترة كنت أخبر الدكتاتورية جيدا، ولكني مازلت اعتبر الحرب أو الوباء من خرافات الماضي، وحين هددنا القذافي وابنه، بداية انتفاضة فبراير، من حرب أهلية إذا ما غاب عن المشهد، كنت أضحك مثلما ضحكت يوما على أبي وهو يخزن الطحين خوفا من الحرب، لكن يبدو أن أبي الأمي الذي خبر الفاشية ومعتقلاتها يدرك جيدا أن لا فاشية تنتهي دون حروب وخراب.
كان القذافي طيلة حكمه يحذرنا من قطار الموت القادم، وكان يضخ السلاح والمال لحروب العالم الأهلية ويؤججها، ويثير الضغينة داخل المجتمع والقبائل والمدن عبر التحالفات المتقلبة وعبر التهميش والازدراء لبعض مكونات المجتمع، وكان يكدس السلاح فوق الأرض وتحتها، وكان قد فرّغ الدولة من المؤسسات وعطّل فيها القانون، لا دستور يحدد مصير الدولة بعد موته، ولا جيش يمكن أن يؤمنها، وكان مازال يضخ المليارات من الخزينة العامة لدفع تعويضات ما اقترفه من جرائم. لذلك حين هددنا بالحرب بعده كان (البذّار يعرف ما الذي طلع من يده) وكان يدرك أنه صمم دولته الأمنية الخاصة على مقاس عمره، وأن الأرض المحروقة هي ما ستكون بعده، ونجح إلى حد كبير لأن ما زرعه من ألغام وعبوات ناسفة في طريق الخلاص مازال ينفجر ومازالت الأشلاء تتناثر، ولأنه لم يترك خلفه سوى هذا السيناريو الوحيد الذي صرف عليه المليارات كي يشتغل ذاتيا بعده.
الآن وبعد نصف قرن من وهم عشته بأن الحرب والوباء أُُدرجا ضمن أرشيف الغولة في الذاكرة، أجد نفسي وجهاً لوجه أمام ما اعتقدت أنها خرافات، وأن لا عقبة أمام هذا المجتمع كي يزدهر سوى الدكتاتورية التي يخبرنا منطق التاريخ أنها زائلة لا محالة، ومنذ انبلاج هتاف (الشعب يريد إسقاط النظام) كنت أطمئن أولادي بمستقبل باهر عليهم أن يستعدوا له، ثم في قصيدة “رعد” اعتذرت لهم ولكل جيلهم:
عذرا أولادي
علمتكم كيف تنصتون للموسيقى
كيف تغازلون الجميلات بشعر كأنه الندى
كيف توقدون النار في الحطب المبلول
وكيف تمشون على رؤوس أمشاطكم كي لا تعكروا قيلولة الجار
ولم أعلمكم لغة الزناد، ولا كيف تبنون متراسا من الطحين
فاغفروا لي على كل وهم دسسته في عيونكم
واغفروا لي أني لم أُصدِّق في غمرة الوهم حدسَ أبي
ولم آخذ كوابيسه على محمل الجد.