مقالات مختارة

صمود السلمية أهم رهان لسلامة السودان

عثمان ميرغني

منذ اندلاعها في 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تعرضت الثورة السودانية لاختبارات وتحديات كثيرة، من أهمها التحدي المستمر لسلميتها، والمحاولات المتواصلة لحرفها عن هذا المسار. فالسلمية كانت ولا تزال هي السلاح الأقوى لهذه الثورة، وبها حققت كل إنجازاتها حتى الآن، واكتسبت اهتمام العالم واحترامه.

كان واضحاً منذ البداية أن طريق السلمية لن يكون سهلاً أو مفروشاً بالورود في مواجهة تهديدات علنية من أركان نظام الرئيس الساقط عمر البشير، ومن قيادات الحركة الإسلاموية، وعلى رأسها علي عثمان محمد طه، الذي هدد علناً باستخدام «كتائب الظل» لقمع الثورة وحماية نظامهم المتآكل، إضافة إلى استقدام أحمد هارون وميليشياته الدموية إلى الخرطوم، وهو الرجل المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب فظائع في حرب دارفور، وله تصريحات علنية مسجَّلة تثبت نهجه وعقليته يدعو فيها القوات في جنوب كردفان، عندما كان والياً عليها، إلى عدم أخذ أسرى أحياء، بل تصفيتهم «ولا نريد عبئاً إدارياً».

لم تكن تلك هي القوات الوحيدة التي جمعها نظام البشير والحركة الإسلاموية في مواجهة الثوار، بل كانت هناك قوات جهاز الأمن والشرطة وميليشيات الحركة الإسلاموية الأخرى، إضافةً إلى قوات الدعم السريع. لكن رغم كل العنف المفرط المستخدَم، حافظت الثورة على سلميتها، ولم تنجح القوة في حماية البشير من السقوط، مثلما أنها لم تنجح حتى الآن في كسر شوكة الشارع المتأهب، والشباب المطالب بالتغيير، وتحقيق أهداف الثورة التي دفعوا ثمناً غالياً لها.

صمدت السلمية رغم مجزرة فض الاعتصام في التاسع والعشرين من شهر رمضان الفضيل، وما سبقها أو تلاها من أحداث، كان آخرها استهداف مظاهرة الطلاب العزَّل في مدينة الأبيض يوم الاثنين الماضي، في مشاهد قاسية صورتها كاميرات الهواتف الجوالة وتناقلتها وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، وأحدثت غضباً وغلياناً في أرجاء السودان. صحيح أن أصواتاً قليلة خرجت تحت تأثير الغضب والإحباط لتدعو إلى ردٍّ من النوع ذاته على مَن يقتلون المتظاهرين، لكن غالبية الناس تمسّكت بعدم التفريط في السلمية باعتبارها سلاح الثورة الأقوى، ولأن الانجرار إلى العنف سيقود السودان إلى طريق الدمار والفوضى، في ظل انتشار السلاح وتعدد الحركات المسلحة.

الواقع أن الخطورة ليست في الأصوات الغاضبة القليلة التي سرعان ما تعود إلى ضبط النفس، بل في وجود «قوى خفية» تعمل ما في وسعها لجرّ الثورة السودانية نحو دائرة العنف. فليس خافياً مثلاً أن عناصر من النظام الساقط، ومن أتباع الحركة الإسلاموية وكتائبها المسلحة، تعمل جاهدة لخلق فتنة، وافتعال أحداث عنف، لضرب الثورة. وإلى جانب هذه العناصر، هناك جهات أخرى تريد عرقلة المفاوضات بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير»، ومنع نقل السلطة إلى حكومة مدنية.

فقد بات ملحوظاً أنه كلما اقتربت هذه المفاوضات الجارية في ظل الوساطة الأفريقية الإثيوبية من اتفاق مهم، تحدث تفلتات أمنية، أو تقع حوادث تستهدف المتظاهرين السلميين يسقط فيها ضحايا، لاستفزاز الناس وجرهم إلى خطوات تتعطل بسببها المفاوضات. فأحداث الأبيض مثلاً قادت إلى تأجيل جولة مهمة كان مقرراً عقدها بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير»، لإجراء مباحثات نهائية بشأن الإعلان الدستوري، الذي يُعتبر الخطوة الأخيرة في مفاوضات نقل السلطة، وبدء الفترة الانتقالية رسمياً.

من المشاهد الغريبة، أمس، وأول من أمس، في ظاهرة «التفلتات» غير المفهومة، كان مشهد الدمار الهائل الذي لحق بفرع بنك الخرطوم في مدينة الأبيض عقب مجزرة الطلاب. فالدمار كان شاملاً إلى حد يصعب معه تصديق أنه كان عملاً عشوائياً من قِبَل بعض المحتجين الغاضبين. كما أنه مع بث فيديو طويل نسبياً يصور الدمار في كل طوابق البنك، فإنه لم يظهر فيديو «يوثق» قيام متظاهرين بعملية التدمير، علماً بأن التصوير بالهواتف الجوالة أصبح ظاهرة منتشرة وملازمة لكل أحداث الثورة تقريباً. فبث فيديو الدمار هدفه واضح، وهو تشويه الثورة وسلميتها وربطها بأحداث عنف وتدمير.

في هذا الإطار أيضاً جرى خلال اليومين الماضيين تداول مقطع فيديو على نطاق واسع مع تعليق بأنه يصور لحظة هجوم بقنابل مولوتوف استهدف سيارات عسكرية تابعة لقوات الدعم السريع في أحد شوارع الخرطوم الحيوية. ورغم أنه لم تحدث إصابات، نتيجة إطلاق النار الكثيف من هذه القوات بعد «الهجوم»، فإنه أثار شيئاً من الرعب والقلق خوفاً من أن يكون من مقدمات انجرار نحو العنف.

الأمر برمته بدا مريباً لأن المشاركين في الثورة السودانية لم يلجأوا إلى مثل هذه الأساليب، مما يرجح أن منفذيه قد يكونون من قوى «الثورة المضادة» التي تريد إجهاض ثورة الشباب، وعرقلة نقل السلطة إلى حكومة تشكلها «قوى الحرية والتغيير» من الكفاءات المدنية المستقلة.

إضافة إلى ذلك فإن تفحص الفيديو يثير بعض الشكوك، مثل أن «الهجوم» جاء من جانب مغاير للمكان الذي يُفترض أنه كان يقف فيه بعض شباب الثورة، كما أن الشخص الذي صور المشهد كان يقف في مبنى عالٍ مستعداً للتصوير في اللحظة ذاتها التي حدث فيها الأمر مما يوحي بأن المسألة منسقة، والهدف من بثها تشويه الثورة وسلميتها.

هذه الأحداث وغيرها، مثل صدور دعوات من جهات غير معروفة لمظاهرات تتخللها ممارسات غير منضبطة، دفعت «تجمع المهنيين» و«قوى الحرية والتغيير» إلى إصدار بيانات وتصريحات تشدد على أهمية التمسك الصارم بسلمية الثورة، وعدم الانجرار إلى أي استفزازات أو أعمال تشوه الثورة وتحرفها عن سلميتها. وطالب «تجمع المهنيين» الشباب الثائر «بالكشف عن كل مَن يحرّض أو يقود مسارات عنف»، محذراً من «دعاة الفتنة» الذين يريدون ضرب الثورة في شعارها الرئيسي المتمثل في السلمية.

هذه الدعوات تأتي استشعاراً للمخاطر المتزايدة مع وصول مفاوضات نقل السلطة إلى نقطة مفصلية وحساسة، إما أن تقود إلى نجاحها أو إلى تعثرها وعودة الشارع إلى الاشتعال مرة أخرى. فالقوى المتربصة بالثورة ستصعّد من نشاطها في هذه الفترة، وهدفها إحداث فتنة والدفع باتجاه العنف، لأنها خسرت كل الجولات الماضية في مواجهة سلاح السلمية الذي كان بالمحصلة أقوى من كل البنادق الموجهة نحو صدور الشباب، وكان الحامي للسودان من الوقوع في دوامة العنف التي وُئِدت فيها ثورات أخرى ودُمّرت أوطان.

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى