صادق جلال العظم ..التوسير بدون لينين
نورالدين خليفة النمر
هنا نحن نختم ثلاثية المراثي التي بدأنا نزيفها بغياب جورج طرابيشي وبعده مطاع صفدي وهاهو جلال صادق العظم يسقطه الموت فيغيب أيضاً لنندب كـ نيتشة قدر الفلسفة الحزين فنشق الجيوب في مناحة العرب في خريف ربيعهم ونلطم الخدود . لقد تسلل جورج طربيشي إلى عالم فضولي المعرفي الغرير المبكر عبر سارتر الذي ترجمه فأصاب وأخطأ ،وفرويد الذي ترجمه مؤخراً وطبّقه في الرواية العربية فأكمل وقصّر ،ومطاع صفدي إقتحم عذريتي الفكرية بترجمته لأيروس هربرت ماركوزة وهتك الأشياء بالكلمات بنص ميشيل فوكو في إركيولوجيا المعرفة إغواء الغرب لنا الذي قلّبنا صفدي عليه بقلق جملته العربية الغامضة المتوّهة كمن قلّب قطة على سطح من صفيح ساخن ،ففهمنا وأحترنا فلم نفهم . الراحل صادق جلال العظم وهو الفيلسوف الذي رّسخ كعبه عكس مواطنيه السوريين طرابيشي وصفدي في محبة الحكمة”الفلسفة” إختصاصاً دراسياً في جامعة بيروت الأمريكية كـ هشام شرابي رفيقه الذي مخر مثله عباب الرحلة إلى أمريكا التي منها سيكسران قوقعة الفلسفة ويهربان منها شرابي إلى المثاليات اللبيرالية في السياسة والمجتمع وسوسيولوجا الحضريات من منظور الحزب القومي الأجتماعي السوري،وجلال العظم إلى الماديات الجدلية الماركسية في نقد فكر الدين وتشريح هزيمة الذات في السياسة والمقاومة والثوريات العالمثالثية إذ تقتحم البراكسس بدون عدّة الفكر وبنظرها المغبش تُعشيه فتعميه .
في المقالة المرصودة لنعيه في صحيفة الشرق الأوسط اليوم2016 .12. .13 وبصدد التنويه بسيرته المهنية تمت الإشارة إلى جامعات حاضر فيها المفكر الراحل كـ برنستون ،و هارفرد ،وهبمبورغ ـألمانيا ،وأنتويرب ـ بلجيكا ،وتوهوكو ـاليابان ، وجامعتنا في مدينة Oldenburg بشمال ألمانيا التي زارها ربيع عام 1994 عندما كنت أدرس بها الفلسفة والسياسة وكان مستضافاً منها والمركز الوقفي للفيلسوف الوجودي الشهير “كارل ياسبرز” ملقياً محاضرات في قضية “سلمان رشدي” الساخنة ذلك العام وقضايا أخرى فلسفية وفكرية ،ولقد أتيحت لنا مناقشته في المحاضرات، التي ألقاها باللغة الأنجليزية وبدأها بلفتة شكر وإمتنان على شرف حضور مبرمج المحاضرات لمنتدى وقفية كارل يسبرز للفلسفة أستاذ الأقتصاد وفلسفة الجماليات بكلية الفلسفة بجامعة أولدنبورغ البرفسور “تسور ليبا” بمحاضرة حول تقديم الفيلسوف كارل يسبرز إلى قراء الفلسفة العرب ، ثم اعقبها بمحاضرة “قضية سلمان رشدي” متجاوباً مع الأنشغال الفكري والسياسي في ألمانيا وقتها بقضية حرية التعبير في العالم الأسلامي في ضؤ التصعيد الإيراني لفتوى التكفير بحق الكاتب رشدي وتداعيات رصد جائزة لإغتياله ،ثم محاضرة حول ذهنية التحريم في مجال الأفكار والسياسات الأسلامية .
كتاب ذهنية التحريم الذي ترجم ذاك العام إلى الألمانية كنت قرأته مقالات مسلسلة في مجلة الناقد اللندنية بداية التسعينيات قبل رحيلي إلى المانيا فلم أجد فيه العمق الفلسفي الذي كنت أترقبه من أستاذ فلسفة رصين كتب أطروحة بالأنجليزية في عقلانية فلسفة إيمانويل كنط وجدت نسخة لها في مكتبة جامعة أولدنبوغ ،وهو ماأرجعني إلى إنطباعاتي حول كتابه المبكر المثير ،الزوبعة في فنجان “نقد الفكر الديني” ،وكتابه المدرسي دراسات في الفلسفة الأوروبية الحديثة الخ .
في كتابيه المبكرين “دراسات يسارية في فكر المقاومة”، و”نقد فكر المقاومة” كان يمكن لجلال العظم ان يؤسس ويطوّر لفكر نقدي في براكسيس اليساريات الثورية العربية الممثلة في المقاومة الفلسطينية ـ اللبنانية مثل ماأسس للماركسية واليسارية الأوروبية وأحزابها المفكر والفيلسوف الفرنسي الماركسي البنيوي لويس إلتوسير في كتاباته حول “لينين والفلسفة” و”من اجل ماركس”. إلا ان إنخراط العظم في مآزق يوميات البيروقراطيات الفلسطينية ،والأداء الهش والمسطح والمنافعي لقياداتها القروية وزعاماتها ومخاتيرها جرّه إلى مسيرته في الطريق الدون كيشوتية التي أرهقته وأبهضت فكره مما جعله يركن أخيراً لمسالمة ومهادنة النظام القمعي في سوريا في حقبة الأب ـ الأسد الذي وفّر له وظيفة الطريق إلى التقاعد رئيساً لقسم الفلسفة الشبحية مفهوم بلا ماصدق في جامعة دمشق مدينة الحرائق والمقابر والأشباح .
لقد زرت الأستاذ جلال صادق العظم بعد إنتهاء سيمناره بدعوة منه في مقرّ إقامته بالفندق ببلدةHuda القريبة من Oldenburg وضمني وثلاثة زوار من الطلبة العرب وجدتهم عنده حديث شائق لساعات كان كله في الفكر وقضاياه : صراعه الفكري الشرس مع إبن بلده وخصيمه إلى يوم موته الشاعر أدونيس ، والسيرة المضطربة لصديقه القديم بسام الطيبي الذي كان وقتها أستاذاً مثيرا بأفكاره في المانيا ،ونقاش علمي مطوّل في القضية التي كانت تشغل إهتماماتي الآكاديمية وقتها أي موضوعة الدولة والقبيلة وإنتربولوجيا البداوة في ليبيا حسب الرؤية الخلدونية وقد إستمع بإنتباه عن قضايا بلاد عربية ليس لديه فكرة وإلمام بقضاياها ومشاكلها ولقد أغبطه مستوى الحديث وأفرحه بأن قدّم له لأول مرة رؤية أخرى عن ليبيا التي كانت وقتها كما هي الآن معتمة بالجهل والجاهلية وهو يودّع زواره أخدني في زاوية قرب المدخل شاكراً لي متعة قراءة عاشها مع بحث لي اهديته له عنوانه “رجل القلّة رؤية خلدونية في إنسان مابعد الحضارة” كنت ناشره في مجلة الفصول الأربعة الليبية عام 1993 مستشرفاً معي عبر القراءة عالم المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي الذي لم تكن له به دراية معرفية كافية وكان طوال تلك الدقائق ممسكاً بيدي محدقاً في عيني بمشاعر فياضة تنم عن تسامي خلق وتواضع إنسان وحدس مفكر كبير رحمه الله فقدانه لايعوض في هذه الظروف العربية الحرجة .
رحم الله المفكر صادق جلال العظم ..إستقلال فكر ،وعضوية ثقافة،ونشاط معرفي مثابر،وسجال متواصل ضد السلطة المستبدة بكل تجلياتها في السياسة والمعرفة والفكر …..شكراً أستاذ حسن الآمين إنك أعلمتنا