شهادة في الفقيد محمود جبريل بعد 40 يوما على رحيله
عبدالله الغرياني
كانت علاقتي بالدكتور محمود جبريل علاقة تخطت العمل السياسي والمدني الوطني وهي علاقة أعتز بها كثيراً ضمن علاقات عديدة تربطني بأصحاب الرأي والكلمة وصناع القرار والرؤى الوطنية.
بدأت العلاقة عندما اقتنعت وقررت أن أمارس العمل السياسي الحزبي في منتصف عام 2013 وانضممت لتحالف القوى الوطنية مكتب بنغازي حيث وجدته الأقرب للتيار المدني ولا يتعارض كثيراً مع أهدافه ومبادئه وكان الأفضل دائما في المواقف وكثير الانحياز لتيار الشارع.
كنت ضمن النشطاء الفاعلين في آخر حراك شاركت فيه ميدانياً في مدينة بنغازي وهو حراك لا للتمديد وما أن بدأنا العمل حتي تسللت أيادي الغدر والخيانة التي كانت تتخذ من بنغازي معقلها الأول وتسيطر على أغلب مناطقها وضعت هذه الأيادي الغادرة عبوة ناسفة تحت مقعد سيارتي بعد بروزي وظهوري المتكرر مع الرفاق في التيار المدني قبل وبعد حراك لا للتمديد متبنيا نهج الدفاع عن الدولة المدنية والمسار الديمقراطي والتصدي لأي مشاريع للهيمنة على حلم الحرية والثورة .
دخلت للمستشفى في حالة صحية حرجة وما إن استيقظت وعاد إلى الوعي نسبياً حتى وجدت رفاقي حولي، تفقدت جسمي وشعرت بما حدث لي ولم تمض دقائق حتى اقترب أحد رفاق وقال لي الدكتور محمود معاك على الخط وبدأ هو الحديث ((كيف حالك يا عبدالله والحمد لله على سلامتك)) جاوبته بشكل بسيط وشرحت أني فاقد الإحساس والحركة في قدمي رد “متخفش الكل معاك وإن شاء الله حنديروا المستحيل عشان تطلع فورا من بنغازي”.
واستمرت المعاناة داخل مستشفى بنغازي بين محاولات الخروج ومحاولات جعل الحالة مستقرة كذلك الخوف من أن تعود أيادي الغدر لتكمل فعلتها داخل المستشفى كما حدث مع الكثيرين من الذين تم الغدر بيهم .
خرجت الى الأردن ولم تمض أسابيع حتى دخل علي الدكتور محمود جبريل في المستشفى يحمد الله على السلامة وتدخل في تلك الليلة بشكل مباشر لاستكمال رحلة إنقاذ ما تبقى من جسدي وأطرافي خارج الأردن حيث شاهد سوء الوضع الصحي .
غادرت من عمان إلى باريس ولم يمض شهر حتي دخل علي من جديد في المستشفى الأمريكي وكنت حينها أعاني من مشاكل صحية جسيمة وتدهور في الحالة النفسية بسبب الحادث الذي تعرضت له، في عمر شباب إنسانيًا واخلاقياً يجب أن يستبعد عن مثل هذه الأساليب ولكن هذا هو الإرهاب لا يميز بين طفل ولا مراهق ولا شاب ولا رجل ولا عجوز، دخل الدكتور جبريل الغرفة صباحاً وكنت قد عممت على التمريض بأن لا تفتح الإضاءة أو ستائر النوافذ طوال النهار، وبأن لا رغبة لي في رؤية الشمس ولا ضوء النهار، دخل الدكتور جبريل وكنت أظن بأن إحدى الممرضات دخلت لإعطائي جرعة من الأدوية أو التأكد من الوضع لأني كنت على موعد مع عملية تنظيف مساء ذلك اليوم، وعندما دخل دكتور جبريل لم أنتبه له وتوجه بشكل مباشر بعد ان رأى الظلام الدامس في الغرفة للستائر وفتحها ودخلت علي أشعة الشمس ورفعت الغطاء فوجدت أنه الدكتور جبريل ابتسم وقال لي كيف حالك يا عبدالله ورديت عليه بصدمة لأنه لا موعد للزيارة ولا علم لي بأنه في باريس.
تبادلنا أطراف الحديث وقال لي: “عارف إن الشيء اللي تعرضت له كبير لكن اصبر واحتسب وأنت توا في حال أفضل كن متعاونا مع الأطباء ومع الملحق الصحي والناس هنا كلها تخدم لإنقاذك وشفائك ومعش تسكر الستائر والضي ونوض الصبح وافطر واقبل بالمتاح قدامك وتقبل الوضع الحالي وإن شاء الله عندنا احتفال بعد شهر في طرابلس حتكون حاضر معانا” واستمرينا في حديث مختصر عن الوضع العام في ليبيا وتحديداً إعلان الجيش لمعركة الكرامة آنذاك والوضع السياسي ولكن ختم الحديث وقالي: “انت عندك عملية اليوم وأنا طيارتي ما زال عليها ساعات ومعايا ابني مريض نبي نعدى رد بالك على روحك وأي شئ بلغ الأخوة هنا أو أرسلي” فطلبت منه أن نلتقط صورة معا وفعلا قام بتصويرنا الشخص المرافق له ولكنه بعدها قال لي : “يا عبدالله رد بالك اتنزل الصورة” فسألته لماذا فأجاب “نبي نحس إني زرتك فعلا” فوافقت على طلبه.
ولم نلتق منذ ذلك التاريخ إلا بعد عامين بالضبط في القاهرة في شهر مارس لحضور ورشة عمل أشرف عليها مركز مسارات، وزرته في مكتبه بعد أن استقبلني مساءً أحد أعضاء التحالف وكان مكتب الدكتور متواضعا وعندما رآني أتعكز قال: “ماشاء الله سبحان الله والحمدلله” وجلسنا وتحدث الدكتور عن الوضع الصحي أولا وبعدها عن الوضع العام، وقد كان متفهما جيداً لموقفي الداعم وبشدة للجيش وهو كذلك لكن في نطاق المبدأ العام للتحالف والتيار المدني ولا يختلف أحد في المجمل حول هذا المبدأ.
وقد زرته مرة أخرى قبل مغادرتي للقاهرة وأصبحنا على تواصل حتى بعد ذلك وقد كان خير السند و”الفزاع” وتعامل معي بشكل إنساني كبير وفي وقت مبكر وقت ارتعشت فيه الدولة عن تبني ضحايا المليشيات التي شرعنتها، ومهما اختلفت مع الدكتور محمود ورغم تقديم استقالتي من التحالف إلا أنني أجد نفسي كل مدة أرسل له رسالة لأطمئن عليه مباشرة أو عن طريق أحد الأخوة المرافقين له.
وحاولت زيارته في زيارتي الأخيرة للقاهرة ولم أتمكن، وكانت آخر رسالة للاطمئنان والسلام عليه أرسلتها له عند انتشار الفيروس تحديداً قبل إصابته بشهر لأحد الأخوة المقربين منه وقلت له أبلغه السلام والتحية وكررت له “راك تنسى الأمانة السلام للدكتور”.
وبلغني بعد أسابيع أنه مصاب وطمأنت نفسي وقلت الدكتور سوف يجتاز هذا المرض والمحنة ولكن هذا الوباء اللعين تمكن من جسده واستيقضت صباح الأحد 5 أبريل ظهراً وعلمت بخبر وفاته وبقيت مصدوما لساعات ولم يأتني نوم لظهر الاثنين وأنا أعزي وأواسي نفسي لوفاته وأستذكر ذكرياتي معه.
رحم الله الدكتور محمود جبريل الوطني والمخلص لليبيا وغفرله وأسكنه الجنة وأنار قبره بنور الاطمئنان والسكينة ويجازيه كل خير.
قام الدكتور محمود جبريل بتكريمي بدرع التميز مقدم من التحالف القوى الوطنية في الاحتفالية الثانية للتحالف بطرابلس وقمت بإلقاء كلمة من غرفة المستشفى في باريس للحضور في طرابلس.