شرطة لمكافحة الحب
سالم العوكلي
في زمن ما، حين تحول الضمير الأخلاقي إلى أيديولوجيا، اقترح مشرعو القوانين (الأخلاقية) ما سمي وقتها شرطة الآداب، تقريبا في الوقت نفسه الذي فتحت في أول كلية للآداب. لم أطلع على قانون هذا الجهاز، ولم اتصادم به لأن حياتي الأولى كانت في الخلاء وفي القرية بعيدا عن قبضة القانون. ظلت معايير الأخلاق والقيم غامضة ونسبية وصعب تحديد مفهوم لها من الممكن أن تشمله إجراءات جنائية، غير أنه في مجتمع متجهم تتحول فيه الأخلاق إلى قناع اجتماعي يوحي بأن كل شيء على ما يرام، اتجهت هذه الشرطة إلى شطحات الشباب وإلى كل ما تمليه المراهقة من نزوع إلى التمرد والمحاكاة والتواصل مع كرنفال الحياة، ولأن موسيقى فرقة البيتلز، في ذلك الوقت، كانت غاضبة ومتمردة على كل قوانين الإقطاع السائدة، انتشرت في العالم، وجاب هندام وهيأة مغنيها المتمردين أصقاع الأرض حتى وصلت إلى قرانا، وقلدناها ونحن نجوب الخلاء خلف القطعان. في المدن تحركت شرطة الآداب لتلاحق شعور الشبان الطليقة كأحلامهم، وكانت المقصات تجوب الشوارع خلفهم، وهي المقصات نفسها التي ستلاحق فيما بعد النصوص والمجازات الشعرية في هيئة رقابة المطبوعات، ليصبح حتى خيال الأدب طريدة لشرطة الآداب.
كان نبض الحب، أو ما يشي به، أو ما يشير إليه، هدفَ هذا الجهاز المدجج بقانون وهراوات وأصفاد حديدية، مسموح لكل عاشق أن يتدرب على كل فنون اللصوص كي يسترق دقائق في العتمة مع معشوقته، لكن ممنوع أن يجلس معها في مقهى أو على كرسي في حديقة عامة تحت الضوء، وتدرب جيل كامل على البحث عن الحياة في الظلام وفي الأحراش وفي الخرابات وفي الأقبية.
عندما كنت أعمل في قطاع الزراعة، ذهبنا كفريق علمي لنتتبع مشيا على الأقدام مجري الساقية التي كانت تجر الماء من الشلال وعين البلاد إلى بساتين درنة، وهُجرت بعد أن دخل ضجيج المضخات فضاء المدينة، وحُفرت آبار في سواني المدينة المتبقية. انطلقنا من حي (الباطن) نتتبع المجرى القديم الذي تراكمت فيه الحشائش والقمامة، وكان لابد من أن نمر بالنفق المعروف في حي الباطن الذي حفره السيد محمد بي قبل قرنين كي تصل الماء إلى تربة درنة الخصبة بالانسياب الطبيعي. سبقنا أحد أعضاء الفريق وحدق في النفق المعتم الذي تفوح منه رائحة كريهة فرأى حركة أقدام في العتمة الخافتة داخل النفق، وأخبرنا أن ثمة شخص أو أشخاص في الداخل، وحدقنا جميعا ولم نر شيئا، وأثناء نقاشنا خرج علينا شاب وسيم وأنيق من نفق لم نتوقع أن تخرج علينا منه سوى الفئران. وسألنا ماذا نريد؟ قلنا نحن من الزراعة ونريد المرور مع النفق ، فارتبك وقال ألا يمكن أن تؤجلوا الأمر نصف ساعة ، ابتعدنا قليلا وقررنا الذهاب من فوق النفق لكن صاحبنا الفضولي بقى معه، ليخبرنا أن الشاب كان في موعد مع صديقته داخل النفق، وكان علينا أن نغير اتجاهنا احتراما لهذه اللحظة الرومانسية في غير زمنها وغير مكانها.
بعد هذه الحادثة بفترة أصدرت ديوانا شعريا تحت عنوان (مقعد لعاشقين) ولم يكن دافع القصيدة هذه الحادثة فقط، ولكن ما كان يصيبني من رعب وأنا أرى كل مظاهر العنف والقبح شائعة في مدينة لا توجد بها حديقة عامة أو مقعد لعاشقَين،: “يالهذه الشوارع .. تحمل كل هذه القمامة .. وتضيق عن قبلة عاشقين” .
يصيبك الرعب وأنت تكابد المشهد
وأنت تشم في العيون حريقَ الغابة
وأنت تبحث عبثا في المدينة عن مقعد لعاشقَيْن.
……
عليك ما عليك
قبل أن تقابل وجها لوجه وجهَك النحيل
جرح بحجم المرآة
وطن شاسع لا مكان فيه لتأدية الحب.
عشت في فضاء كان الحب فيه ينمو على ضاف الآبار، وفي طرق جلب الحطب أو المياه، وكان قبل ذلك (صوب خليل) تراثه الشفهي الذي انبثقت أشعاره عن لقاءات بين الشبان والشابات في خيمة مخصصة لهذا الغرض أو على الآبار التي تجلب منها الفتيات والفتيان الماء بعد رحلة طويلة، واختفى صوب خليل لأن الأداة البدائية التي ربط، إرنست فيشر، الفن بها اختفت أيضا، وربما شكل لي انتقالي إلى شوارع المدن المرتبكة صدمة حيال مراقبة المشاعر، لأن في المدن اقترحت مؤسسات واجهزة وقوانين تراقب كل شيء، ولأن عيون المجتمع تتجاوز أو تألف مناظر القمامة والسكاكين والسواطير المنتشرة، والأشجار المقلوعة، والبضاعة المتراكمة على الأرصفة، ومياه المجاري الطافحة، ولا يخدش حياءها سوى مشهد امراة تشبك يدها بذراع رفيق حتى وإن كان زوجها، أو مراهق يتكيء على جدار في ناصية في انتظار أن تمر حبيبته، بل أن هذه السلطة التي أصبحت مزيجا معقدا بين السياسي والاجتماعي والديني، تتفرج على كل أخبار الحروب والقتل والحرائق، وعلى كل قنوات نشر الشعوذة والخرافات، وعلى كل الكتابات والبرامج التي تثير الفتن، تتفرج عليها بغبطة، وتثور وتصرخ وتحذر الأمة من الفساد والخراب حين تطلع على مجاز شعري إيروتيكي أو ترى مشهدا قبلة هربت من أصابع الرقابة في فلم رومانسي.
تسللت شرطة مكافحة المشاعر إلى جامعاتنا فيما سمي أمن الجامعات، يتفرجون على المشاجرات بالسكاكين داخل الجامعة، ولكن يا ويل طالب وطالبة يجلسان معا أو يتصافحان أو حتى يتناقشا في المنهج داخل الحرم الجامعي. فُصلت كافتيريات الجامعة بين الذكور والإناث بحواجز ومنعت الموسيقى في داخلها، بل بُنيت أسوار بشعة داخل الجامعة تحجب الطلاب عن الطالبات. وكأن هذا المجتمع الذي تاريخا من الطمأنينة الجندرية، وعاش عقدا ستينيا وبعده بقليل منفتحا محبا للجمال، اكتشف خارطة جديدة للأخلاق بوصلتها لا تشير إلا إلى الجمال كجهة محرمة، والحب كتهديد عظيم لحياء المجتمع. ومازالت أجهزة الشرطة تلاحق الشبان المحتفين بالحياة في الشوارع، وتمنعهم من التسكع أو التسوق أو حتى الفرجة في ليالي العيد، وهم شبان مكتظون بالشغف الطبيعي كلما اقترحوا طريقا للأمل أو البهجة قُفلت في وجوههم، مستقبلهم غامض، عاجزون عن السفر وحتى عيش أحلامهم في دار سينما محترمة، ولا أمكنة تستوعب طاقاتهم المتفجرة التي زرعها فيهم الخالق كي يحافظ على النوع البشري.
ثمة أنواع للشرطة مهمة جدا للمجتمع وللأرض وللمستقبل عاطلة عن العمل : الشرطة الزراعية. شرطة الكهرباء. الشرطة السياحية التي تحمي الآثار والشواطيء والأماكن السياحية. والحرس البلدي الذي يحمي حياة الإنسان وبيئته، وشرطة المرور التي تنظم الحركة والسير وتقلص من حالات الحوادث، لكن لا حضور حقيقي لها وغير مرئية، فكل ما يقع في اختصاصها مستباح علنا، ولم تظهر حتى الآن لحيز الوجود إلا شرطة الآداب تلاحق مرح الشبان، أو تحرق الكتب وتطارد المجازات والاستعارات في النصوص الأدبية، أو تفصل بين الطلاب والطالبات في الجامعات.
كل هذا استتباع أو تنويع على مؤسسات رقابية متجهمة، وأجهزة وقوانين، جرمت حتى الفكاهة طيلة عقود من التجهم الثوري الذي تقوده جهات متعددة، ولم يكن الطغيان السياسي إلا تجلٍ إداري لطغيان ديني صنعه الأوصياء على النص وعلى العباد. وهكذا تتحالف مرجعيات سياسية واجتماعية ودينية وقانونية ضد هذا الشعور المقدس والنبيل الذي به استمر نوعنا البشري؛ والذي به يمكن أن نخلق مجتمعا متسامحا مسالما محبا للحياة؛ والذي به يمكن أن نحلم بمستقبل ديمقراطي دون أن نحس بهذا الفصام التاريخي بين ما نطمح إليه وبين ما نعتقده في قرارة أنفسنا. وهذا القفل الممنهج لدروب الفرح والجمال والمرح والحب، لن يترك لطاقة الشباب سوى طريق واحد صوب العنف، أو طريق يفضي إلى غيبوبة التطرف الذي حوّل طاقة الحياة إلى طاقة للموت، أو يفضي إلى غيبوبة المخدرات التي نرى الآن شباننا يهوون فيها كي يغيبوا عن واقع يلاحق بهراواته وعيونه المتلصصة أحلامهم ومشاعرهم والكيمياء الربانية التي تسري في أجسادهم، أو طريق واحد يتربص به الموت صوب الضفة الأخرى من المتوسط حيث “الحياة هي في مكان آخر”.
على ما أذكر، في التسعينيات، صدرت مجموعة قصصية للكاتب: د. أبوالقاسم صميدة، تحت عنوان (الحب في زمن اللجان الثورية)، وتطرح القصة التي تحمل المجموعة اسمها شخصية شاب منتمٍ لحركة اللجان الثورية يعيش رعب قصة حب سرية يعيشها لأن قانون حركته يمنع على أعضائها عيش هذه المشاعر المسيئة، بما يشبه (التسامي) في الشيوعية الراديكالية. واستهواني العنوان لأن (اللجان الثورية) تحل بدل (الكوليرا) اقتباسا عن رواية الكولمبي جارسيا ماركيز “الحب في زمن الكوليرا”.