سرقيوة والنجار ومتلازمة الجوار
فرج عبدالسلام
“خلوا فيها شرف…”
مقولةٌ إنسانية عظيمة ومحزنة أيضا، ستظل خالدة في ذاكرة الليبيين، رفعها الليبي الرائع “سليمان الحْوتي” في وجه جلاّديه الإرهابيين وهم على وشك أن يقتلوه بدمٍ بارد، غير عابئين بأدنى مبادئ المعاملة الإنسانية كما تقتضي قوانين الأرض وشرائع السماء… ومن قبلِه نطق شهيدُ ليبيا الشيخ الكبير، عمر المختار، بقول مماثل أمام محكمة المستعمر الصورية التي لم تلتزم أيضا بمنطق العدالة والحضارة التي يدّعون أنهم جاؤوا يحملونها إلى الشعوب الأدنى.
يتشابه الشعبان المصري والليبي في الكثير من الظروف والأحوال وصولا إلى المزاج العام. وكما يربطهما الجوار الجغرافي، ويتمازج بحكم هذا الجوار تاريخهما القديم والحديث، فالأول يذكّرنا بقيام جد “شيشنق” بالرحيل من واحة ليبية إلى مصر القريبة ليصير حفيده فرعونا وحاكما للأسرة الثانية والعشرين… أما اللاحق من هذا التاريخ فما يزال في الذاكرة القريبة، ولا يستطيع أحد نكران أن الجيران الشرقيين لديهم من المواهب والكفاءة والتقدّم النسبي، لنتعلم منهم الكثير. فمصر هي الأكثر تطورا وسبقا للحضارة. ولنا أن نتذكر من بين أمورٍ كثيرة أنّ تاريخ الترام والسكك الحديدية لديها يعود إلى نهايات القرن الثامن عشر، بينما قمنا بتخريب والقضاء على خطوط القطارات القليلة التي تركها لنا الطليان، وما نزال حتى اللحظة بلدا بدون أي نوع من المواصلات العامة، على الرغم من دعاوانا المضحكة السابقة بأننا نريد أن نعلّم شعوب العالم.
كذلك فالتاريخ القريب والبعيد يجمعنا أيضا مع جيراننا بروابط أقل ما يقال عنها أنها بائسة، خلّفت آثارا مدمرة حياتنا وتركت أخاديد عميقة، ما نزال نعاني منها حتى الساعة، فكلانا ابتُلي بحكم استبدادي عاث في البلاد والعباد فسادا، ولم نشف بعد من آثار تلك الحقبة المدمرة التي استمرت عقودا كثيرة.
مناسبة هذا الحديث، حكمٌ صدر بالأمس عن محكمة مصرية يأمر وزارة الداخلية المصرية بالكشف عن مكان وجود النائب السابق المعارض وطبيب الأسنان “مصطفى” النجار، الذي كان شخصية بارزة في ثورة 2011 والذي (اختفوه) منذ أكثر من عام. ويَعتقدُ كثيرون أن السلطات تحتجزه مع كثيرين غيره، وبالطبع نفت السلطات كعادتها اعتقال الرجل، وتؤكد أن ما تتخذه من إجراءات ضرورية هو للحفاظ على الاستقرار ومكافحة الإرهاب.
وقال النجار في بيان/وصية تركها قبل اختفائه: “عزيزي القارئ، إذا كان باستطاعتك قراءة هذا المقال الآن، فهذا يعنى أن كاتبه قد صار خلف الأسوار في أسر السجان، كاتب المقال ليس قاتلا ولا مرتشيا ولا سارقا ولا يتاجر في المخدرات، كاتب المقال طبيب تعرفه وبرلماني سابق ربما تكون انتخبتَه ليمثلك في البرلمان عقب ثورة يناير في أول انتخابات ديمقراطية حقيقية شهدتها مصر في نهايات 2011”.
على الأقل لدى المصريين محاكم وقضاء يتصدى أحيانا وقدر الإمكان للعسف والجور. لكن ماذا عن أحفاد المختار، ورغم أن لدينا العديد من حالات الإخفاء القسري، إلا أن ما يبرز أمامنا هي قضية مماثلة تتعلق بنائبة الشعب “سهام سرقيوة” التي اختُطفت من بيتها على مسمع ومرأى من الجميع. لم تكن سهام بحاجة إلى كتابة وصية كما فعل النجار، لكن لا أشك أنها صرخت في سرها (وامعتصماه) عندما تكالبت عليها بنادق الغزاة. وهي أيضا مثل النائب النجارِ، لم تحمل سلاحا أو يُعرف عنها مساهمة في إرهاب من أي نوع… أين القضاء العادل الذي ينصفها، والذي لم يتأخر عن إصدار مثل ذلك الحكم (الموْتور) حول قانونية انعقاد مجلس النواب، وكانت نتيجته أن دخلت البلاد في نفق مظلم لم تخرج منه إلى الآن.
وتظل كلمات الشهيد “الحوتي” أصدق تعبير عن الحالة.