سرت.. عين على دور سياسي وازن في المشهد الليبي المأزوم
لم يكن الاهتمام السياسي بمدينة سرت وليد اللحظة أو نتاج تطورات سياسية مرحلية تحكمها ظرفية تاريخية تندفع لها النخب والأطراف الفاعلة في المشهد السياسي، فسرت بمركزها التي يتوسط الخريطة الجغرافية الليبية وبما تُمثله من منطقة توازن تنتهي على ضفافها المتوسطية وتضاريسها الصحراوية المتداخلة شمالاً وجنوباً حالات المد القبلي والسياسي لمكونات المركب الاجتماعي الليبي، كانت محوراً سياسياً واجتماعياً فاعلاً ومؤثراً في المشهد الليبي منذ بدايات تُشكل الدولة الليبية الحديثة، وهو دور تعزز للمدينة التي تضم خليطاً من قبائل ليبية متعددة بعد ملحمة القرضابية التي رسخت في الذاكرة الليبية كمعركة للّحمة الوطنية التي امتزجت فيها دماء الليبيين من مختلف المناطق.
دور بُني على عوامل قائمة على ثنائية جغرافيا الموقع وديمغرافية التوزيع السكاني، وهي عوامل لا تسقط بالتقادم مما مكنها مجدداً من العودة لصدارة المشهد الليبي مع عزم الحكومة الليبية مباشرة أعمالها من المدينة، بعد أن تعذر على رئيسها فتحي باشاغا استلام السلطة ومباشرة مهامه من العاصمة طرابلس مع استمرار منافسه عبد الحميد الدبيبة، برفض تسليم السلطة لحكومة غير منتخبة، وما أنتجه هذا الخلاف من استقطاب حاد وضع البلاد على حافة مواجهة مسلحة كانت أن تندلع لولا الموقف الدولي الحازم والأطراف الداخلية الفاعلة التي رفضت تجديد سيناريو العنف.
توجه بتوافقات محسوبة تسعى لتحويل مدينة سرت لمركز ثقل سياسي وإن كان محدوداً بإطار زمني مؤقت مع إصرار الحكومة الليبية المعلن على ممارسة مهامها من العاصمة طرابلس، إلا أن هذا الطرح كان رائجاً منذ رسم خطوط وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، والذي كانت سرت أحد نقاط تماسه، حيث ضغطت أطراف دولية باتجاه تحويل المدينة لعاصمة سياسية ينتقل إليها مركز صناعة القرار مع توفير حماية أمنية مشتركة من أطراف النزاع تمنع انحياز الحكومة لطرف بعينه، كما تقطع الطريق أمام ابتزاز المؤسسات العامة وتكرار السيناريو الذي عانته الحكومات المعاقبة في طرابلس.
اتجاه تدعمه البنية التحتية المتوفرة في المدينة التي كانت محوراً وواجهة سياسية إبّان النظام السابق مع استضافتها لأحداث سياسية وازنة، كالقمة الأفريقية عام 2001 والقمة العربية عام 2010 رغم ما عانته المدينة من أحداث أمنية متوالية، بعد ذلك أدت لتضرر أجزاء كبيرة وتذبذب الحالة الأمنية فيها مع سيطرة تنظيم الدولة عليها، إلا أن عودتها لبقعة الضوء مجدداً قد تسهم في الدفع بأعمال صيانة وإعادة التهيئة مع فشل جهود الإعمار وهو مكسب قد يتحمس له أبناء المدينة الذين دفعوا ضريبة قاسية لسنوات التوتر والفلتان الأمني.
خيار وإن كان مؤقتاً إلا أنه يلقى دعماً من مجلس النواب الذي سيعقد جلسة استثنائية داعمة للحكومة في سرت، يتوقع أن يحضرها فتحي باشاغا الذي يدفع باتجاه توسيع دائرة الدعم الداخلي وتوفير زخم لتحركات حكومته، مع تجنب عقد جلسات رسمية في بنغازي أو إحدى مدن المنطقة الشرقية لكي لا يستخدمها خصومه في الدعاية العكسية وإلباسها ثوب الحكومة الموازية، وهو سيناريو يخشاه باشاغا وداعموه الذي يقدمون أنفسهم كحكومة استقرار جامعة للفرقاء المحليين، رغم الاكراهات التي تواجهها وعلى رأسها الفشل في الحصول على اعتراف دولي مع الشكوك التي تعتري المجتمع الدولي من صدق النوايا بإجراء انتخابات وطنية في جدول زمني محدد.
وتظل الخيارات أكثر اتساعاً ووضوحاً لدى منافسه عبد الحميد الدبيبة الذي نجح بشكل لافت في تشكيل تحالف عسكري مدعوم من حواضن اجتماعية في مدن مؤثرة غرب البلاد، بالإضافة لنفوذه في مؤسسات الدولة المتركزة في العاصمة وعلى رأسها المصرف المركزي الذي يعد قطب الرحى في أي معادلة سياسية بوصفه الممول للموازنة الحكومية مع استبعاد تكرار سيناريو الانقسام المصرفي مجدداً في ظل الزخم المتعلق بتوحيد قطبي المركزي والمخاوف الدولية من مواقف باشاغا إزاء النفوذ الروسي في مناطق تحالفاته السياسية، مع تعثر جهود فتح الموانئ والحقول النفطية وهي عوامل يستغلها الدبيبة الذي يصر على إجراء الانتخابات كمطلب وحيد لإنهاء الأزمة السياسية في البلاد.