زيارة أخرى لمواجهة التطرف!
محمد الرميحي
على مدى ثلاثة أيام، آخر الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) التأم عدد كبير من المهتمين والدارسين العرب والأجانب ذوي القامات الفكرية المتميزة، نساءً ورجالاً، في رحاب مكتبة الإسكندرية، تلبية لدعوة مديرها العام الدكتور مصطفى الفقي، وهو من أعلام الثقافة المصرية المعاصرة، لتدارس موضوع حيوي يشغل بال كثيرين هو «الفن والأدب في مواجهة التطرف». وفي مثل هذا المحفل تتعدد الآراء وتختلف وجهات النظر، كل يحاول وضع تصور لمفهوم التطرف (التعصب) وأسبابه. ولأن الحضور من مدارس مختلفة، وعلى سوية مختلفة من التجارب والمواقف والخلفيات، فمن الطبيعي أن تتعدد زوايا الرؤية والاجتهاد.
عناوين الجلسات تراوحت بين الثقافة والتقدم في العالم العربي، مروراً بالنقد الأدبي والفني، وصولاً إلى الإعلام والمسرح والسينما، وكذلك الوعي القانوني، وأخيراً دور المؤسسات الثقافية، من بين عناوين أخرى. واضح بالطبع مساحة التفكير وفضاؤه التي سارت عليه الندوة. سردت ذلك لأنقل للقارئ (نبض مسرح الأحداث) في تلك الأيام الثلاثة المائلة إلى البرد على شاطئ البحر الأبيض، التي تم الحديث والنقاش فيها حول تلك الظاهرة، وهو كما يتضح مسرح واسع متعدد المداخل. ما سوف يلي هو انطباعاتي الخاصة حول مجمل ما دار في ذلك اللقاء الفكري المهم، ناقلاً ليس فقط الانطباع، ولكن مدلياً أيضاً برأيي في مجمل النقاش الذي دار.
قلت من الطبيعي أن تتعدد مداخل فهم ظاهرة التطرف (التعصب) وتفسيرها، وهي ظاهرة (مُعولمة)، وأصبحت تؤرق العالم بأركانه الأربعة، كما أنها ليست حكراً في التاريخ على ثقافة بعينها، أو مجتمع أو دولة، فقد مرت شعوب ودول بمثل تلك الظاهرة الكريهة (التعصب) أو التطرف؛ حدث ذلك في تاريخ الولايات المتحدة، كما حدث في عدد من دول أوروبا، وحتى في دول العالم الثالث. والمطّلع على تاريخ مسيرة الشعوب يصادف فترات مظلمة في ذلك التاريخ سميت بالإرهاب الأسود، إلا أن الإرهاب في ربع القرن الأخير، قد التصق كلياً بالعرب والمسلمين. فمنذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، حتى ظهور «داعش»، مروراً بـ«القاعدة» وبتفجيرات المدن الغربية الكبرى أو العواصم العربية، تم اقتران (التطرف) أو (التعصب) أو حتى (الإرهاب) بالعرب والمسلمين. فأصبحت ثقافة كاملة، متهمة، ومحل شك وارتياب، على مستوى العالم.
كما أن الاقتراب من الظاهرة، كما حدث في أروقة مؤتمر مكتبة الإسكندرية، قد يكون جزئياً في بعض الأوقات، وشمولياً في أوقات أخرى، أي أن البعض يفسر التطرف على أن جذوره مادية بحتة، وهي كما عبر عنها البعض إما (فشل في برامج التنمية) في هذا المجتمع أو ذاك، أو قصور في (إدارة المجتمع على أسس حديثة)، وقد تكون عناصر كلية، وهي شعور جمعي (بالإهانة الحضارية) تدفع بعض شرائح المجتمع إلى (الأخذ بالثأر) من (آخرين) بعضهم معروف وبعضهم غير معروف، كالاستعمار الغربي أو الهيمنة (الإمبريالية) أو الآخر المختلف حتى في البلد الواحد.
تقديري أن التطرف في فضائنا العربي، الذي تجلى مؤخراً في أكثر الأحداث هولاً وفظاعة، كمثل صور الإعدامات على خلفية زرقة البحر، والصف البشري المقيد الأيدي والمرتعش وذوي الأردية البرتقالية، وعدد آخر ملثم خلفهم، يقومون بإعدامهم بدم بارد، أو كحرق الطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبة، الذي بث على العالم في شريط ملون يقترب اللهب من جسمه، وهو حبيس قفص حديدي، مروراً بقتل عشرات في مسجد بالعريش، وما بين كل تلك الأحداث الكثيرة من رعب، كتفجير الطائرات أو تفخيخ البشر… تقديري أن كل هذا التطرف نابع من فكرة واحدة مركزية هي الشعور بالعجز أمام التطور العالمي، وأن الخروج من هذا العجز في نظر هؤلاء هو العودة (إلى الخلافة)، أي شعور عميق بعدم قبول الهزيمة التي حطت على (الخلافة الإسلامية)، دون تبصر أن الشعوب أو معظمها لقيت الهزائم في وقت أو آخر من تاريخها. هزيمة اليابان وألمانيا، مثال قريب في التاريخ، ولكن كلتا الأمتين وغيرهما اعترفت بالهزيمة، ونهضت على برنامج جديد عصري ومتفاعل مع المعطيات الجديدة في العالم.
عدم قبول الهزيمة التي منيت بها الأمة في وقت من تاريخها والإصرار على العودة إلى ذلك التاريخ المتخيل، هو الجذر الذي تفرعت منه أشكال مختلفة من ردود الفعل غير العقلانية والعدمية في مظهرها ومخبرها، التي تسمى اليوم بالإرهاب والتطرف. الكثير مما تركته أدبيات «القاعدة»، التي هي أيضاً جذر من نبات تطاولت فروعه بعد ذلك في الفضاء الإرهابي، كثير من الأدبيات تشير إلى تاريخ محدد ومحزن في نظرها، وهو تاريخ سقوط الخلافة، لذلك كان هاجس (الخلافة) أو إحياؤها هو الهاجس الذي يبرز في الكثير من الكتابات والتصريحات والتصرفات من قادة سياسيين وفكريين، حتى وصل إلى القطاع الشعبي العام، الذي يسمعه المتابع في تعليقات البسطاء من الناس.
حتى أخيراً في قضية حديثة، كاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، لا تفتأ أن تسمع تعليقات أن السبب في ذلك هو (تركنا للإسلام)، أو عدم وجود خلافة (شرعية)! إلى هذه الدرجة من تغلغل الشعور الشعبي بتلك الفكرة، التي أنبتها ما يعرف اليوم بـ(الإسلام السياسي)، والتصقت بكتابات حسن البنا، وعاد إليها في الكثير من النصوص التي كتبها (إعادة دولة الخلافة) طبعاً تلك الفكرة تجلت فيما بعد الثورة التونسية على لسان حمادة الجبالي رئيس وزراء تونس القادم من جماعة النهضة، حيث قال تصريحه المشهور «إنها لحظة تاريخية في دورة حضارية جديدة في إقامة الخلافة الراشدة السادسة»! رابطاً في ذلك الخطاب (المتوفر حتى اليوم على «يوتيوب») بين فلسطين وتحريرها والفتح والخلافة! كما نجد مثل هذه التعبيرات في خطابات محمد مرسي أثناء توليه الحكم في مصر، كلمات مثل الفتح أو الخلافة تتردد بكثافة. أما إن تصفحنا كتب سيد قطب، خصوصاً كتاب «معالم في الطريق» وفي كتابات أخرى نجد تلك المفردات والعبارات التي تؤدي المعنى نفسه. هي كتابات وتصريحات وخطب، تعيد إنتاج بيئتها الخاصة المفرطة في الماضوية، دون تركيز أو محاولة فهم ما يحيط بالإنسان العربي المعاصر من شروط اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة، ودون تقدير للتطور الذي حدث (للأمة) منذ ظهور (الدولة القومية الوطنية) قبل مائة عام تقريباً، التي أصبح لها دستور وكيان يربطها بمؤسسات العالم، ولا شروط النهضة الوطنية.
تغييب قدرة العقل النقدي والارتكان إلى الشحن الانفعالي المتوتر، اتكاء على ما يقدم للناشئة من معلومات في المدارس ووسائل الإعلام، من خلال التلويح بالعودة إلى (العصر الذهبي) المتخيل، جعل من جماعات وفرق (في الغالب شبابية) تزحف فرادى وجماعات إلى ذلك الفضاء المتخيل، إعادة الخلافة! إلى درجة أن بعضهم في ذلك الفضاء المتخيل، يعلن نفسه خليفة أو دول الخلافة! الهالة الأسطورية التي خلقت حول (دولة الخلافة التاريخية) وهي قراءة مبتسرة للتاريخ، ومفتقدة للنقد العقلاني، هي التي جعلت من أولئك الزعماء في تيار (الإسلام السياسي) يأخذون العامة إلى مكان تصادمي مع ما أنجزته الإنسانية من تقدم. بالتالي فإنه دون الخروج من تلك البوتقة المحدودة الماضوية، والتصالح مع فكرة أن الخلافة بشكلها التاريخي انتهت، والعصر ليس عصرها، وأن شروط النهضة موجودة في عصرنا في مكان آخر تماماً، اسمه العلم وعنوانه المأسسة والعدل والمساواة والإنتاج، سوف يظل من يرغب في أخذنا إلى التطرف (التعصب) موجوداً ومرحباً به في بعض الأوساط بسبب تلك الفكرة الخارجة عن سياق التاريخ.
آخر الكلام:
أعظم الناس يقيناً، أكثرهم جهلاً، فحتى الحقيقة لها عدد من الأوجه!