زمن أغبر
فرج عبدالسلام
كما جرت العادة، وكما ستجري مرات ومرات، فقد خرجت بياناتُ الشجب والاستنكار ضد آخر تجسّدات الفكر الجهادي البائس في مجزرة مؤسسة النفط… سيتم الترحمُ على أرواح الشهداء مع أمل الشفاء العاجل للجرحى والمصابين، وإن استبعدت البيانات هذه المرة أي ذكر لعبارة العودة للمفقودين سالمين غانمين… ستعج المنابر الإعلامية بأخبار الهجوم على المؤسسة، وسيجد المحللون فرصتهم للظهور، وإبداء الآراء، وإلقاء اللوم على هذا الطرف أو ذاك، وستمتلئ منصات التواصل بأخبار الحدث، مصحوبة بتعليقات الألم والترحم على أرواح الشهداء، وسيجد الحانقون والمحبطون متنفسا في آلت إليه ثورة فبراير من خيبة أمل، وكذلك سيجد “أنصار سبتمبر” فرصتهم للتشفي وللنيل من الجرذان فيكيلون لثوّار “الناتو”، ويترحمون على وقت كانت فيه البلاد تنعم بالأمن والأمان في ظل جماهيرية القائد الأممي. والأهم هو أن هذا التنظيم الدموي الشيطاني سيُصدرُ لا محالة بيانا يتفاخر فيه بقيام جند الخلافة بـ “غزوة المؤسسة” ضد القوم الكافرين، وفي سبيل رفعة الإسلام والمسلمين.
لكن وكما هي عادتنا، لن يمر وقت طويل حتى نعود إلى سابق عهدنا، في صراعات مضحكة بين مؤسسات ونخب كلها تدعي الشرعية وتذيّل بياناها بعبارة حفظ الله ليبيا، وسنتغاضى عن جذور المشكلة، وهي أنّ لا أحد منا يحب مفازة الرمال العظيمة هذه، ومخزن البغضاء والجهل المقيت التي نبتت خلال تلك العقود العجاف، وسنلقي اللوم على جماعات متطرفة خارجية، وهذه المرة من “ذوي البشرة السمراء” الذين وجدوا في البلاد مرتعا خصبا لفكرهم الشيطاني، وسنمضي قدما دون أن نتفطّن إلى ما يحيق بنا من خطر حقيقي، وإلى واقعنا المؤلم الذي ينتج كوارث متتالية نحن ولا أحد غيرنا من يهيّئ لها البيئة المناسبة للوقوع. فلم يكد يمضي أسبوع على الاقتتال المحلي الذي خلف ضحايا أبرياء أكثر بكثير مما خلفه “جند الله” المتسلمنون عندما رأى “الكانيّون” ومن يلف لفّهم، أن “الغنيويين” و”الكاريّين” و “التاجوريين” و “الحلبوصيين” وغيرهم، قد دانت لهم السلطة والثروة في مركز اتخاذ القرار. وعلى أمل أن ينالوا نصيبهم من الكعكة، حاولوا، بطريقتهم الرعناء، تحريك البحيرة الراكدة، ورفع هذا الغبن تحت شعارات الحفاظ على الوطن ورفعته، وتحرير العاصمة من معاناتها، وما إلى ذلك من الشعارات التي عرفها الليبيون وسئموها ولم تزدهم إلاّ وبالا.
إنْ اعتقد كثيرون منا أنه ليس بإمكان بشر أسوياء ارتكاب هذا الكم الهائل من الشرور ضد إخوتهم في الإنسانية، وكذلك ضدّ معالم الحضارة البشرية، كما يفعل داعش والقاعدة. إلا أنه بالمقابل من الصعب الاعتقاد بأن ليبيين أسوياء بإمكانهم ارتكاب هذه الشرور غير المسبوقة ضد مواطنيهم، من قتلٍ وتدميرٍ عشوائي تحت مسمى الوطنية التي يدّعون، والخوف على مصير البلاد. لا أرى في ذلك إلا فكرا داعشيا بثوب مختلف، بل يفوقه شرورا وتدميرا لأنه يتدثر بعباءة الوطنية، ولا أرى إلا التسليم بأن هذا “زمن أغبر” بحق.