رحيل “الطيب تيزيني” .. فيلسوف “التنوير”
السوري الطيب تيزيني فيلسوف التنوير واجه “داعش” والعولمة… دافع عن الهوية العربية ورحل
سامر محمد إسماعيل – عن صحيفة ” اندبندنت عربية”
رحل ليل أمس المفكر والفيلسوف السوري الطيّب تيزيني عن 85 سنة (1934- 2019) في مدينته حمص، التي ولد فيها وعاش أيامه الأخيرة، مُنكبّاً على كتابة سيرته الذاتية بمساعدة ابنته الباحثة الاجتماعية منار تيزيني. بدا صاحب كتاب “بيان في النهضة والتنوير العربي” مصراً في عامه الأخير، أكثر من أي وقتٍ مضى، على مساندة السوريين المستضعفين الذين أنهكتهم الحرب بأطرافها المتعددة، والعيش قريباً من معاناتهم وهواجسهم، مستعيداً على رغم المرض، أفكاره ومواقفه الفلسفية، ومعيداً النظر في كتبه التي أصدرها وتضمّنت نظرته إلى الإنسان والعالم، هو الذي تم اختياره عام 1998 واحداً من أهم مئة فيلسوف في العالم من قبل مؤسسة الفلسفة الألمانية- الفرنسية”.
دعا الطيب في آخر سنوات حياته إلى إعادة قراءة العالم في مواجهة ظاهرة الإرهاب الدولي، وكان على وشك تحويل بيته الكائن في حي دمشق الجديدة في دمّر، إلى مركز أبحاث اجتماعية، قبل أن يعيش عزلته ومنفاه الاختياري في ظل الحرب القائمة في بلاده منذ مارس (آذار) 2011، لا سيما بعد اعتقاله على خلفية مشاركته في اعتصام وزارة الداخلية في بداية الأحداث الدامية في سورية.
الملامسات الأولى التي أطلقت أجنحته في عالم الفكر السياسي كانت من حمص، ليغدو عبر عشرات الدراسات والكتب والأبحاث من أبرز المشتغلين على تأصيل فكر عربي صار جزءاً من تطور الفكر الإنساني، ناسفاً باتكائه على الجدلية الماركسية مركزية النموذج الغربي في وراثته الفلسفة اليونانية. ومعروف أنّ عائلته مثّلت جميع السوريين في تعدّد مشارب أفرادها وعلى اختلاف تطلعاتهم، فوالده كان يعمل قاضياً شرعياً، محافظاً ومتنوراً في آن، وأخوته كانوا منقسمين بين التنوير والتصوّف؛ وكان لهم كل الأثر في بناء شخصيته التي تغذّت من مكتبة الأب.
في حيّ “باب الدريب” الحمصي، وتحت المئذنتين وقريباً من منطقة الشيخ عمر وحيّ “الصليبة” شهدت هذه الأماكن تفتّح مدارك “الدكتور”، فالطفل الذي كان في حبواته الأولى نحو المعرفة، ظل مواظباً على قراءة الكتب في ظل حضور أُمِّه سنية الجندلي، المرأة المتحدرة من أعرق عائلات حمص المترفة، والتي أحبها الطيب وتعلّق بها فقال عنها: “أمي كانت في تفكيرها امرأة مؤمنة لكن إيمانها كان محبّباً، تركت آثاراً طيبة في نفسي من الرغبة في المعرفة، إذ لاحظت باكراً أنها لم تكن تقرأ ولا تكتب في ما أتعلم فيه، فلفت نظري هذا الأمر واكتشفت أنها لا تقرأ إلا القرآن ومن النسخة التي تملكها، والتي ما زلتُ أحتفظ بها في مكتبتي الشخصية حتى الآن منذ وفاتها عام 1967”.
قراءة الطيب المبكرة الأدباء الروس مثل تولستوي وغوركي، ومطالعاته أفلاطون وأحمد أمين لا سيما كتابه “في الإسلام والفكر الإسلامي” لأحمد أمين، بالإضافة الى كتاب “تحرير المرأة” لـقاسم أمين، دلت صاحب كتاب “من التراث إلى الثورة” إلى جذر المشكلة الاجتماعية العربية، فكان نتيجة قراءاته أن اقترب من الفكر المتنور كثيراً، مدافعاً عن النساء اللواتي كنّ يعشنَ ظلماً في محيطه الاجتماعي؛ خصوصاً أن مناقشة هذا الأمر بدأت معه في “القيناق” (كلمة عثمانية تعني المنزول)، وهو التجمع الثقافي والسياسي الذي كان يديره والده، إذ دارت فيه وقتذاك سجالات مهمة، لاحظ بعدها صاحب “روجيه غارودي بعد الصمت” أن قضية المرأة صارت قضية من القضايا الرئيسة لديه، مثل الاقتصاد والسياسة. كانت قراءات الطيب الباكرة غزيرة في الفلسفة والأدب، وأثر فيه كثيراً كتاب “العقد الاجتماعي” لروسو، واطّلع من ثمّ على معظم ما كتبه هذا الفيلسوف الفرنسي، مما قرّبه أكثر من أفكار الثورة الفرنسية لاسيما آراءها حول المجتمع المدني.
لحظات تاريخية حاسمة
استطاع الطيب، وعبر قرابة نيف وسبعة عقود من الزمن، الإطلالة على لحظات حاسمة من سيرة بلاده المعاصرة، فكان شاهداً على فترة التحولات الكبرى في الأربعينيات من القرن الماضي، التي أنتجت الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، لتتشكل بعدها قوى ثقافية واجتماعية وسياسية حملت على عاتقها تحرير المجتمع والإنسان، إذ مثلت تلك القوى حالة فريدة بتجمعها، وبالاعتبار الوظيفي تمّم كلّ بعضه، الشيوعي والقومي والليبرالي والإسلامي، فشهد صاحب كتاب “من التراث إلى الثورة” حرب الاستقلال في جزء ولو بسيطٍ منها.
عاش الطيب تيزيني وقتذاك قريباً من رجلين كبيرين كانا من المجاهدين ضد الاحتلال هما خيرو الشهلي ونظير النشيواتي، فالجو العام كان قائماً وقتذاك على قيم الجهاد والمجاهدين والتواصل. وكان الجو العام في سورية الأربعينيات منفتحاً بدرجات مختلفة- كما وصفه الطيب أكثر من مرة في مؤلفاته، ما عدا التيار الصوفي البسيط الذي لم يصل إلى مرحلة التعبير العصري عن أفكاره ومقولاته. فكان للمفكر الحمصي أصدقاء كثر منهم البعثي والشيوعي والإسلامي المتنور، وهناك من يقترب من التنويري بدرجة كبيرة، وهو الشاعر نصوح فاخوري الذي عايشه الرجل وتشرّب أفكاره، وكان “فاخوري يلقي خطباً في أماكن ثقافية، إضافة إلى مثقفين آخرين كانوا ينادون بالحرية؛ سعى الطيب معهم إلى تأسيس مجموعات سياسية متقدمة، حلم أن تصنع ما صُنع في فرنسا.
درس تيزيني بعد خروجه من حلقات المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدرسة “الشيخ طاهر الرئيس” في حمص، لينال الشهادة الثانوية بداية خمسينيات القرن الفائت. ولعل العلاقة بين القارئ والمقروء؛ وبين المعرفة وحضور الأم، فتحت مدارك الشاب الصغير على عالم الفقراء وخصوبة هذا العالم وجحيمه، فحرّضته قصة سمعها من أهله عن الرجل الحمصي الفقير الذي اضطر إلى أن يبيع ولده كي يعيش، وأثّرت فيه كثيراً، فازداد محيطه تنوعاً وطيباً ودفعاً باتجاه الفقراء؛ والذين صار يبحث عنهم ليقدم لهم المساعدة، وكان على احتكاك يومي بالفقراء ومشرّدي الحرب في شوارع دمشق وحمص.
السيرة الذاتية المفتوحة
كان الطيب قد شرع أخيراً في كتابة سيرته الذاتية، وتركها سيرةً مفتوحة لا تنتهي إلا بانتهاء حياة كاتبها. فالرجل الذي عاش لحظاتٍ مهمةً من تاريخ سورية المعاصر، تجلّت في فترة النهوض بعد الاستقلال، كان قد شاهد عن قرب في تلك الأيام كيف صارت السياسة تبرز في الانتخابات البرلمانية، ليتعرف بأن هناك آخرين مناهضين لما يفكر ويؤمن به، إلا أنه كان يحترم آراء الجميع، ويقترب منهم كي يتعلم، كما صرّح أكثر من مرة في حواراته؛ وكانت أهم نقطة تمثّلت في فكره بعد جلاء الفرنسيين عن بلاده؛ إيمانه بالتعدّدية الثقافية والسياسية تحت جبهة واحدة، ضمّت الشيوعيين والليبراليين والإسلاميين والقوميين وكان هو على رأس هذا التحالف.
تبنّى الطيب مواقف عديدة كان حريصاً على تجديدها، كان أبرزها موقفه من القراءة الجابرية للفكر العربي، وذلك عبر مواجهة فكر العولمة الذي يهدّد بتفكيك الهوية العربية، وبالتالي إجهاض أي احتمالات لنهضة مقبلة من الذروة التي وصل إليها الفكر العربي: “ذروة ذات طابع حاسم، إما أن تكون أو لا تكون، الذروة هنا في نبش الكينونة ونفي هذه الهوية”. ودعا الطيب إلى مراجعة موقفه من الجابري، وذلك بعد عرض ما قدّمه عنه في محاضراته الأخيرة التي ألقاها في المغرب العربي.
في مطلع الخمسينيات غادر حمص إلى دمشق ليكمل تحصيله في جامعتها (كلية الآداب- قسم الفلسفة)، وما إن وصل إلى عاصمة بلاده؛ حتى بدأت الانقلابات العسكرية تتوالى في الحياة السياسية مع كلٍ من أديب الشيشكلي، وحسني الزعيم، وسامي الحناوي، إلى أن قامت الوحدة بين مصر وسورية في العام 1958. تعرّف على دمشق ومؤسساتها الثقافية ومكتباتها وصالات المسرح والسينما فيها، وعمل مدقّقاً لغوياً في مجلة “ألف باء” متدبّراً بأجره البسيط منها شؤون حياته كشاب يشقّ دربه. لكن الشاب الحمصي خاض في نقاشات مثقّفي دمشق داخل الجامعة وخارجها، إلى أن تطوّر الأمر به ليكون مهتمّاً بالشؤون الاجتماعية والسياسية، فاقترب في الجامعة أكثرَ من السياسة، وصار يهتم بالدراسات السياسية في قسم الفلسفة على أيدي أساتذة كبار من أبرزهم: عبد الكريم اليافي وعادل العوا، فكانوا معلمين وأصدقاء له وسط لوحة متعدّدة المشارب، وكان ذلك مهمّاً جداً إذ وجد الطيّب ما يوازيه حتى على الصعيد الفكري التجريديّ في الحقل الفلسفيّ، وعرف أنه لا يوجد إلا خيار واحد كي تعيش سورية، هو “التعددية- قدر سورية والسوريين”- كما كان يقول.
عاش الطيّب فترة الوحدة السورية- المصرية سياسياً وفلسفياً، وكان قريباً من الحزب الشيوعيّ السوريّ، وكان قتذاك واحداً من أبرز منتقدي الوحدة ومما قال في هذا السياق إن الوحدة لم تكن لها مرحلة تجريبية ولا مقدمات، حتى أنه لم يحدث ما كان عبد الناصر يتمناه وتحدث عنه أكثر من مرة في خطاباته، وهو إجراء استفتاء شعبي بين الناس، فجاءت هذه الوحدة متسرّعة وعاطفية.
كان الطيّب يشارك في أنشطةٍ سياسية لها طابع نظريّ، فقرأ وكتب الكثير عنها، لكنه لاحظَ أنه لم يعد يستطيع كتابة شيء عما يحدث، بل لم يعد قادراً على إنتاج المطلوب منه حتى في الجامعة، خصوصاً أن بعض أصدقائه في أحزاب أخرى لم يعودوا أصدقاء، فهم لم يكتشفوا أن السياسة يجب أن تقرّب ولو كانت المقولات متغايرة، فوجد أن الحياة في سورية صارت معقّدة؛ أضفْ إلى أنه لوحق أمنياً من دون أسباب؛ حتى الحياة العامة لم تعد محتملة؛ والجامعة صارت مهدّدة دائماً بدخول رجال المباحث، فتوقّفت الحياة الجامعية، وصار الطيّب يفكر بحلّ، إلى أن أتى حال جديد من الصراع الدموي عندما أعدمت حكومة الوحدة جمعاً من الشباب الماركسيين والبعثيين في سجون حمص وعلى رأسهم المناضل سعيد الدروبي.
كان الطيّب شاهداً على الممارسات القمعية، التي قال عنها: “تفاقمت وقتها الصراعات المحلية وبدأت الدولة الأمنية بالتشكّل منذ ذلك الحين، ولاحقاً عرفتُ ذلك، ولقد ساءني كثيراً أنني عشت هذه المرحلة الباكرة، فوضعت تعريفاً للدولة الأمنية بأنها الدولة التي تسعى إلى إفساد كلّ من لم يتمّ إفساده؛ بحيث يصبح الجميع ملوثاً ومداناً وتحت الطلب. لقد ضاقت من ذلك الحين حياتنا وصرتُ أسمع بالقتل والتعذيب، وبدأت السجون في سورية تفتح أبوابها بشكل استفزّ الجميع، ليستمر هذا التيار، وأصبحتُ غير قادرٍ على متابعة الحياة، فالسياسة غير ممكنة، والعمل الثقافي يحتاج بيئة أخرى أكثر صحةً وانفتاحاً”.
على خليفة هذه الأحداث قرر الطيّب السفر إلى تركيا عام 1962 ومنها إلى بريطانيا فألمانيا، وكان ميله الأدبي الذي توضّح منذ سنوات دراسته وكتابته بعض القصص القصيرة، جعلاه يتطلع إلى دراسة الأدب الإنكليزي، مذهولاً بشكسبير الذي زار ضريحه في ستارتفورد، لكنه اكتشف أن الأدب ليس مصيره ولم يقترن به، مما جعله ينحو باتجاه الفلسفة مرةً أخرى، ليكمل دراسته في جامعة لايبزغ، فاشتغل بكثافة على قراءاته وتعلم الألمانية واللاتينية، ليصبح من أبرز طلاب الأكاديمية الألمانية، متتلمذاً على أساتذة كبار كان على رأسهم هيرمان لاي، وانتزع درجة الماجستير ومن ثم الدكتوراه، وبعدها شهادة الأستاذية، وقدم رسالته حول “التيارات الكبرى في الفلسفة العربية”، منقّباً في مؤلفات فلاسفة العرب الكبار كابن سينا والفارابي وابن رشد، وكان عمله مذهلاً في ما قدم في جامعة لايبزغ حول التراث والحداثة.
عاش الفيلسوف الحمصيّ بين برلين ولايبزغ ومعظم المدن الألمانية الشرقية منها والغربية آنذاك، وعُرِض عليّه وقتها أن يحصل على الجنسية الألمانية فرفض كما يرفض هذا العرض في ظل سنوات الحرب الحالية، إذ كان يردّد على الدوام في غربته ما كان قرأه منذ سنوات بعيدة لشاعر حمصي مات في الغربة، ولم يحقّق حلمه في العودة إلى مدينته فكتب مناجياً: “أعيدوني إلى حمص ولو حشوَ الكفن”.
قرأ الطيب تحولّات الشرق من وراء سور برلين الشرقية، وكتب لاحقاً مؤلفات عدة عن فترة دراسته في ألمانيا، ومنها الموقف الروحي من الإسلام، وثم وصل إلى مرحلة نقاش الصراع بين الظلامية والتنوير، فكان ضرورياً أن يحيط بالإسلام تاريخاً ومشكلات، فوصل إلى فكرة التمييز بين المطلق والنسبيّ في قراءة النص الإسلامي. ووجد أن هذه الفكرة قد تحرر كتلة كبيرة من الإسلاميين، فناقش مسألة احتكار الحقيقة من طرف على حساب آخر. وقدم أخيراً في بيروت محاضرات في هذا الصدد، في الجامعة الأميركية أو في مؤسسة “أديان” الدولية، طارحاً فكرة مهمة في هذه المحاضرات، هي ضرورة التمييز بين المطلق والنسبيّ. فالمطلق عند التيزيني هو “الله الإسلامي”، والنسبيّ هو “المغلق الذي ليس له نفق تصل إليه إلا عبر نفقك، أي عبر نفسكَ؛ وبإنك تعرفُ الله عبر معرفة نفسكَ”.
وإغراقاً في الإطلاق عبر قراءة جديدة، كتب الطيّب في مفهوم القراءات، وأن قراءة النصوص تبدأ في كونك تقرأها من حيث قدرتك على اختراقها، لكن هذه المكوّنات لا تمنحك شيئاً، فأنت يجب أن تأخذ من حيث تراه، من ثلاثة مستويات بحسب المفكر السوري وهي: المستوى المعرفي والمستوى المتصل بالمصالح، أما المستوى الثالث فمتصل بالقوة. ثلاث قراءت تضبط قراءتك للنص، لأن لا أحد يملك الحقيقة؛ إن الجميع يملك الحقيقة من حيث هم، وهذا ما أثاره في محاضراته الأخيرة في طنجة في المغرب.
وقف الطيّب موقفاً حاسماً من حركة “داعش” معتبراً إياها سليل مرجعيتين اثنتين، أولاً الدواخل التي ترفض فكرة القراءات ولديها شيء ثابت، ومن يخالف ذلك يعتبر آبقاً، أما الثانية فقد تشكلت برأيه مع بزوغ النظام الرأسمالي العالمي ونشأة السوق، وفي ضوء هذه السوق نشأ النظام العولميّ، مدعّماً هذه الرؤية بما قاله ماركس “كلما ارتفعت قيمة الأشياء هبطت قمية الإنسان”.