دلالات الصمت أثناء النزاع (2)
رينيه جندرون
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
الصمت في سياق القوة
ثمة طرق أخرى عديدة يمكن أن يكون فيها الصمت حاسما، ليس فقط كوسائل تجاهل خلاف أو قضية معينة، ولكن أيضا كوسائل إضعاف أو تقليل جودة التفاعل ومجمل العلاقة. يمكن استخدام الصمت، أثناء تفاعل محدد، كأداة للعدوان، وأيضا كأداة في استراتيجية عدوانية واسعة تستهدف فردا أو مجموعة (لسترنبرغر ووليمز، 2009).
قد ترتبط دواعي الصمت في سياق النزاع بقضايا القوة. فالنزاع يصبح مدمرا عندما تتضاءل العلاقة بين الأطراف أو تتضرر. تحتوي أنماط تضرر العلاقة العنف، انقطاع العلاقة، التنمر والتغيرات الحاسمة في المنظمة أو السياق الذي تجري فيه العلاقة. (جمعية بحوث النزاع 1998).
أحيانا يستطيع الطرف الأقوى منع استغلال الفرص السانحة لمناقشة بند أو حدث. وهذا، أكثر من ذلك، قد يضعف الطرف الآخر، ويؤدي إلى وضع قد يمنع التوصل إلى حل للنزاع يرضي الطرفين. في الأوضاع المتسمة بالعنف أو أشكال من الانتهاك (مثلما في العنف الأسري) يطمس الصمت وضع أولئك المنتهَكين والمقموعين ويشرعن فعل القامعين (كوب، 1997، بيرنز، 2008). يعطي الصمت، في هذه الحالة، إمكانية منع إثارة نقطة أو ذكر حدث. وبإسكات مناقشة حدث، لا يستطيع الطرف المظلوم، بالنتيجة، إعادة سرد مجمل الأحداث من وجهة نظره. في هذه الحالة، فإن نفوذ أو سيطرة طرف واحد على العملية يقرر ما هي المواضيع التي تناقش والوقت الذي تستغرقه مناقشة كل موضوع ومقترحات الحل. إذا كان طرف ما أقوى إلى حد معتبر فقد يقدم باستمرار حلولا محتملة تتجاهل أو تستثني نقطة محددة أو مظلمة تخص الطرف المقابل. وهذا يدخل القضية في مجال الصمت ويطيل أمده ويفاقم عدم توازن القوة. ثمة حيل tactics أخرى تستخدم من قبل الطرف الأقوى بما في ذلك تجاهل المطالبة بالنقاش، والاستمرار في رفض الإجابة عن الأسئلة المباشرة، والتأخير المتعمد للأعمال المتفق عليها. وبينما يمكن لبعض هذه السلوكات أن تَحدث، وتَحدث فعلا، خارج الوقت الرئيسي وقيود المصدر، فإن المستمر والمنظم في علاقة ما يزيد الصمت على آليات القوة ويخفض، بالتالي، الفرص المفيدة لكل أطراف النزاع للتوصل إلى إقرار وضع دائم تكون فيه كل الأطراف رابحة durable win-win resolution.
الصمت الذي لا يحدث فيه تقديم معلومات كافية يمكن أن تكون له آثار مخربة على الفرد أو سلسلة علاقات أو منظمة. على سبيل المثال، رفيق عمل واقع تحت التهديد يجري حرمانه عمدا من الاطلاع على المعلومات وبرامج الكومبيوتر الضرورية لوظيفته. حين يستخدم الصمت للسيطرة على المعلومات وحرمان الآخرين من تحصيلها، يقل مستوى الثقة بين الأطراف. يمكن للصمت إرغام الأفراد على محاولة ملء نقص المعلومات، وبذلك تنشأ التصورات غير الدقيقة، وسوء الفهم، والشائعات. يمكن للشائعات بدورها العودة إلى مصدر الصمت سواء كان فردا أو طرفا لا يمكنه إفشاء مزيد من المعلومات أو المعلومات جميعها، متسببا بذلك مزيدا من عدم الثقة من قبل الأطراف المقابلة وأطراف أخرى ذات مصلحة، مؤديا بذلك إلى زيادة في تقييد النفاذ إلى معلومات موثوقة ملائمة ودقيقة.
الصمت في سياق القوة لا يحوز فقط إمكانية تقرير ما تمكن مناقشته وخيارات الحلولة الممكنة، وإنما توقيت المناقشة أيضا. وقد تحتوي عملية الحل فرصا لمناقشة بنود قد لا يكون الطرف الأقوى مهتما بمناقشتها، أو بمدى الوقت ونوعه الذي يمكن أن تستغرقه هذه المسائل، أو المصادر عموما قد لا تكون متاحة. بينما قد لا تكون القضية المعنية صمتا في ذاتها، فإن الأسلوب الذي تعالج به يمكن أن يكون شكلا من الصمت. أيضا السرعة التي يمكن أن يناقش بها بند ما ستؤثر على آليات القوة في عملية الوساطة. الطرف الأقوى قد لا يكون ميالا إلى قضاء وقت طويل خاص بهذا الشأن، أو أن مجمل القضية ليس واضحا تماما وبعض الجوانب المفتاحية يمكن فعليا أن تُسكت.
الاستخدامات البناءة للصمت
استخدامات الصمت البناءة هي أنواع الصمت التي تدعم وتقوي التواصل بين الأطراف. وهذه الاستخدامات للصمت تخلق مساحات مريحة ضمن النقاش والعلاقة بمجملها، بحيث تمكن المرء نفسه من إحراز تبصر أكبر بعواطفه وأفكاره وأفعاله وتعكسها وتوضحها، وتفعل الشيء نفسه مع عواطف وأفكار وأفعال الأطراف المقابلة.
الصمت جزء من التواصل غير اللفظي. في الثقافات الغربية ثمة تفضيل ثقافي قوي يقضي بتجنب الصمت خلال المحادثات. المحادثات غير الرسمية حول اللياقة الاجتماعية social etiquette وضعت ضغطا اجتماعيا قويا على الناس كي يحافظوا على المحادثة متصلة دون صمت.
في ثقافات أخرى، لا يمتلك الصمت نفس المعنى الاجتماعي. ففي أساليب التواصل في ثقافات أخرى، مثل الأقوام الأصلية في كندا، ليس الصمت شيئا ينبغي ملؤه. إنه مقبول، جزء أساسي من أي تواصل لفظي ولا يشعر المشاركون في المحادثة بعبء الصمت ولا يندفعون لملئه بالكلام. في الثقافتين الصينية واليابانية يكتسب الصمت مغزى إيجابيا. لدى ثقافات شعوب أمريكا الشمالية من غير الأبورجناليين Aboriginals يعتبر أي صمت أثناء المحادثة إحراجا (مادونك، 2001). معنى الصمت يعتمد على السياق الذي يحدث ضمنه. قد يتفق الوسيط وأطراف المحادثة على تضمن مراحل من التأمل الصامت. يمكن أن يكون الصمت فسحة زمنية للمشاركين لأخذ استراحة من المحادثة. وهذا قد يتيح توقفا مؤقتا من ضغط عملية الوساطة، ويعطي فسحة للمشاركين للانخراط في تأمل ذاتي أو توجيه أفكارهم إلى موضوع بحث مختلف تماما (فرونت، 2008).
يمكن للصمت أن يكون نقطة انعطاف في المحادثة. ونقاط الانعطاف هذه يمكن أن تكون لها أبعاد إيجابية وسلبية، اعتمادا على الكيفية التي يستخدم بها المشاركون الصمت. أحد العوامل المفتاحية في كيفية استخدام المشاركين للصمت يتمثل في ذكائهم العاطفي (سالفوني & ماير، 1990). فإذا قيم المشاركون مزاج الطرف المقابل، أو الأطراف المقابلة، باعتباره موجعا أو عدائيا، قد يستخدمون الصمت لصياغة استجابة تهدئة التوتر أو لإيضاح الأقوال السابقة للتقليل مما وقع من أذى. وعلى أية حال، إذا لم يكن طرف أو أكثر يمتلك مستوى كافيا من الذكاء العاطفي، فإنه يمكن للصمت أن يستخدم لإيقاع جروح أكثر (عن وعي أو لا وعي) بالطرف الآخر وقد يحقن عملية التواصل، والعلاقة إجمالا، بمزيد من العدائية.