درنة .. يا زمان الوصل بالأندلس
سالم العوكلي
اتصلت مرة من القيقب بصديق من درنة أسأله على أحوال المدينة، فقال لي باختصار دال: وكيف سيكون حالها والقضاة مختبئون في بيوتهم بينما الخارجون عن القانون يتسكعون بأبهة في شوارعها ؟! كان هذا قبل أن تبدأ ملحمة اغتيال القضاة في الطريق ما بين البيت والجامع، وقبل أن يغتال النائب العام في قلب المدينة بعد أن اطلع وتجمعت لديه ملفات خطيرة عما يحدث تحت قبة البرلمان وفي حكومته من جرائم، وقبل أن تُغتال عضوة اللجنة المالية بالمؤتمر الوطني حينما كانت تتوقف على سيدة متسولة لتعطها صدقة.
يطرح الرأي الذي قاله لي صديقي لسان حال المدينة التي وجد سكانها أنفسهم بين المطرقة والسندان ، وهذا ما يعكسه بجلاء البيان الذي أصدره تجمع شباب درنة المعبر عن رأي الشارع الدرناوي، وعن روح هذه المدينة الأصيلة التي تم اختطافها من المسار السياسي الليبي بعد نهاية الفترة الدستورية للمؤتمر الوطني، حيث أن انتخابات المؤتمر الوطني جرت في درنة بسلاسة رغم سيطرة المجموعات الإسلامية على مراكز الاقتراع فيها آنذاك، وقد وصل إلى المؤتمر الوطني أعضاء من درنة يمثلون الإسلام السياسي عن طريق لعبة الكسور المتبقية حسب قانون الانتخابات الغريب الذي تدخل في صياغته جماعة من الأخوان، أو عبر أشخاص موهوا هوياتهم الأخوانية حتى أعلنوا عنها في التكتلات المشبوهة تحت القبة، وقد عايشت تذمر الناخبين في درنة من الخداع الذي تعرضوا له من قبل معظم المرشحين، لأن الأغلبية الغالبة كانت لا تريد جماعة الأخوان لأسباب تتعلق بطبيعة المجتمع الليبي عموما الذي يزدري أي مزايدة عليه فيما يخص الدين، ويتضح هذا الخداع في كون ممثلي درنة في المؤتمر الوطني لا يستطيع أحد منهم العودة إلى المدينة التي انتخبته، خوفا من الناس الذين انتخبوهم وليس من الجماعات المسلحة المتواصلين معها عن بعد .
لقد حاول حشد من ناشطي درنة إعادة هذه المدينة إلى حاضنتها الطبيعية عبر تظاهرات متتالية، شاركت فيها شخصيا، احتجاجاً على وجود الجماعات المسلحة في المدينة، لكن المؤتمر الوطني وحكومته المتواطئة مع هذه الجماعات لم تدعم هذه الجهود، بل الكثير من أعضائهما كانوا على اتصال بهذه المجموعات لحثهم على الصمود في مواقعهم. ودفع العديد من الشباب ومن نشطاء المجتمع المدني حياتهم جراء ذلك الحراك وبعضهم نزح من المدينة حتى الآن .
خُذل سكان درنة من قبل تلك السلطات التي لم تكن لها علاقة بالناس في درنة في حمى توظيفها لهذه المجموعات من أجل مصالحها الخاصة، والدليل؛ أن انتخابات مجلس النواب وانتخابات لجنة الدستور منعت في درنة بعد التأكد من أن هذا التيار لن يفوز في أي منها ، ومن منعوها وهددوا الناس في مراكز الاقتراع بالسلاح والقنابل اليدوية هم من كانوا حراس مراكز الاقتراع إبان انتخابات المؤتمر الوطني العام 2012، ما يشي بعلاقة وطيدة بين ممثلي الإسلام السياسي في طرابلس ومصراتة وبين هذه المجموعات التي تحول بعضها إلى مبايعة داعش واستمر البعض الآخر بنفس التشكيلات المسلحة السابقة، مبعدين درنة عن مشاركتها في هذا المخاض الليبي، وهي المدينة التي أسهمت بشكل كبير في بناء الدولة الليبية بعد الاستقلال عبر كوادرها الإدارية والفنية المؤهلة ، وعبر حرصها على الوحدة الليبية الوطنية أمام العديد من الأصوات التي كانت تنادي بنظام فيدرالي أو بالانفصال في ذلك الوقت.
درنة هي المدينة التي وُقع فيها ذلك الميثاق التصالحي الشهير (ميثاق الحرابي) العام 1946، والتي كانت من المفترض أن تكون مقرا للكثير من الحوارات الليبية والهياكل السياسية الجديدة بما لها من مكانة في الوجدان والوعي الليبيين، ولأن مكونها الاجتماعي يمثل كل النسيج الليبي من الغرب والشرق والجنوب .
يدعم البيان جهود الأعيان وقبائل الأشراف من أجل إنقاذ هذه المدينة من ويلات حرب شوارع سيدفع ثمنها الأبرياء الذين خرجوا، يوم 16 فبراير 2011، ضد نظام فاشي طالما حارب هذه المدينة وعزلها، هاتفين بالوحدة الوطنية والدولة المدنية والتسامح. أولئك الناس هم الذين ملئوا الميادين بأعلام الاستقلال ولا أحد غيرهم، لكن أحلامهم سُرقت من قبل أجندة جماعات من الإسلام السياسي، تسللت إلى هذا الحراك بالخطط والمال والدعم الدولي والإقليمي، لتسرق فرحة وأحلام هؤلاء الناس، وتجعلهم رهائن في بيوتهم وفي مدينتهم المعزولة والمحاصرة، ودرنة المدينة المتدينة والمنفتحة كانت ترفض منذ البداية المزايدة عليها بالتدين أو المتاجرة بالدين من أجل وصول جماعة محددة للسلطة تنفيذا لأجندة أممية، وعلى حساب دماء وأمن وقوت سكانها حسب ما يشير له البيان في النقطة الخامسة “إن استدعاء أناس بعينها في بيان مجلس شورى درنة لا تحظى بالقبول لدى الكثير من الليبيين يظهر وكأنه اصطفاف جلي مع أحد أطراف الصراع، وتخندق واضح مع أناس لم ينفكوا يوما عن الدعوة للاقتتال والحرب”.
يعي سكان درنة تفاصيل هذه اللعبة التي تحاول الخروج بدرنة عن محيطها الذي عاشت معه قرونا، كانت فيها منارة هذا المحيط الذي نشرت فيه التعليم وتبادلت معه السلع الضرورية عندما كان الجميع يأكل من خير هذه الأرض وليس من وراء البحر، فعلاقة درنة مع المحيط علاقة عضوية حيوية تاريخية يحاول الآن قلة من جماعة مؤدلجة ومتمركزة على بعد ألاف الكيلومترات العبث بها عبر بث الفتن بين المدينة وجيرانها، واختزال هذه المدينة في مجرد ورقة سياسية يلعب بها الطامعون في السلطة كما تنتبه النقطة السابعة من البيان المهم: “نحذر من استمرار استخدام مدينة درنة كورقة سياسية لصالح فريق سياسي فقد السلطة عبر صناديق الانتخابات ، ويريد العودة على حساب دماء الشباب المتحمس والأطفال والمدنيين في درنة” . وتمثل هذه النقطة جوهر الصراع في ليبيا كلها، ورغم أن البيان لم يذكر الطرف صراحة لكنه واضح لكل صاحب بصر وبصيرة، وربما تركيز البيان على الظاهرة وليس على التسميات يؤكد المبادئ الهامة التي تُجمع عليها المدينة بغض النظر عن ماهية الطرف أو دون الحاجة إلى تسميته، وهي المبادئ التي ركز عليها البيان في الختام .
هذه الأطراف التي يشير إليها البيان هم جماعة الإسلام السياسي ممثلاً في الأخوان والجماعة المقاتلة الذين “فقدوا السلطة عبر الانتخابات”، إضافة إلى دار الإفتاء ممثلة في رئيسها وبعض الأعضاء المؤدلجين ، وهي المؤسسة التي كان من المفترض أن تلعب دورا مهما في المصالحة بين الليبيين لولا سرقتها وتحويلها إلى طرف سياسي في الصراع.
يستلهم البيان روح ميثاق الحرابي الذي وقعه الأعيان العام 1946 ، كما يستلهم روح الأندلس في هذه المدينة التي تتجاور في قلبها معابد ثلاثة أديان تعايشت على مدى قرون، كما يستلهم تاريخها كحاضرة مؤثرة في محيطها، ومساهمة على مدى تاريخ ليبيا السياسي في بناء الدولة وإدارة مؤسساتها السيادية عبر كوادرها الخبيرة والمدربة.