درنة بين “الجزيرة” والجريرة
سالم العوكلي
قبل يومين كنت في عزاء قريبي الذي استشهد في معارك درنة ضد الإرهاب، مسعود بوزهرة، ببلدة القيقب. والده زيدان محمد بوزهرة حدثني والدموع تلمع في عينيه عن وصية مسعود الأخيرة التي تركها مع أحد أشقائه، مفادها: “أنا لم أنتسب لأية كتيبة لأن هذا وطن لا يستلزم الذود عنه أي مقابل. إذا لم أرجع، وصيتي أن لا تأخذوا أي تعويض أو ميزات مهما كانت. لا أعرف ما إذا كان الذين صدعوا رؤوسنا بالحديث عن الوطن والوطنية وهم يتسكعون بين فنادق العالم، يستطيعون فهم هذه الكلمات البسيطة لفتى ضحى بحياته من أجل مبدأ لا يريد من ورائه شيئا. وربما لم يكن يريد حتى هذه السطور التي كتبتها، لكني أعتذر له لأني مدين له بإلهامي هذا التعريف البليغ للوطنية. رحم الله شهداء الوطن منذ عام 1911 وحتى هذه اللحظة وما بعدها، داعيا أن لا تذهب دماؤهم هباء بتحقق الحلم الذي ضحوا من أجله: ليبيا وطن حر مستقر ينعم فيه الليبيون وضيوفهم بالرفاه والأمن والحرية.”.
هذا إدراج نشرته على صفحتي يوم 22 سبتمبر 2018 .
بغض النظر عن مثيري الفتن من الذين أصيبوا بآفة العنصرية، من خارج درنة وداخلها، فإن مدينة درنة كانت دائما في قلب ووجدان محيطها الكبير، الذي ترسخت العلاقة الاجتماعية والاقتصادية وحتى الوجودية معه منذ قرون.
حين كتبت المنشور السابق كنت أحاول من خلاله أن أثبت هذه العلاقة الراسخة، فهذا الشاب وغيره من الشباب الذين ضحوا بأنفسهم من أجل تطهير درنة من الجماعات الإرهابية التي اختطفتها 7 سنوات، لا مصلحة شخصية لهم في درنة، وبعضهم كانت هذه زيارته الأولى لمدينة درنة، وربما لو عاشوا، لما زاروها بعد تحررها إلا لأسباب اجتماعية .
وحين قلت شهداءنا من 1911 كنت أعني هذه العلاقة العضوية القديمة مع هذه المدينة الني نشرت العلم في كل محيطها، والتي عاشت لقرون على ما ينتجه المحيط من نعم، مثل القمح والشعير واللحوم وغيرها، قبل أن يتحول البحر إلى مصدر لهذه السلع حين غيّر النظام الثوري السابق معادلات العلاقة الاقتصادية، وأصبح ميناء درنة الذي كان حتى عقد الستينيات يصدر القمح والشعير والخرفان، الميناء نفسه الذي يستوردها بعد سنين من الكفاح الثوري المستمر الذي كان أحد شعاراته “لا حرية للشعب يأكل من وراء البحر” وما فعله في الواقع أنه أجهض كل جهود الإنتاج المحلي وأمم القطاع الخاص، ليجعل كل الشعب يأكل من وراء البحر، ولترتبك العلاقات الراسخة بين الأرياف وبين المدن التي أدارت ظهرها لذلك المحيط حين أصبحت السفن التي تستورد السلع الحياتية تأتي من وراء البحر.
نعم حين قلت شهداءنا منذ العام 1911 كنت اعني تلك المعركة الشهيرة التي دارت، العام 1912، على سفح الجبل المطل على درنة من الجنوب الشرقي “معركة القرقف” التي استشهد فيها المئات من شبان محيط درنة دفاعا عنها ضد الغزو الإيطالي .
كان من هؤلاء المتطوعين للدفاع عن درنة: عمي شقيق أبي، حسين مفتاح امحارب، وعمه محمود امحارب، اللذين جاءا من منطقة القيقب مشياً على الأقدام إلى منطقة “المقر والطنجي، جنوب درنة التي كان بها معسكر المقاتلين الذين قرروا تحرير درنة من الغزاة، بقيادة الضابط التركي أنور باشا، المحتج على معاهدة “أوشي لوزان” التي سلم الأتراك بموجبها ليبيا للطليان.
استشهد الاثنان في المعركة مع المئات ممن تطوعوا من المناطق المجاورة لدرنة، لكن العمليات الفدائية التي كانت تنفذ داخل درنة لم تتوقف حتى اضطر الطليان إلى تطويقها بسور يحميها من الهجمات المتكررة.
الأيام الماضية استفزني الشريط الوثائقي “درنة بين الحصار والنار” الذي قدمته قناة الجزيرة وضمنته بكل ما يسعى لبث الفتن بين درنة ومحيطها وبشكل سافر، مثلما استفزني شريطها السابق “الرمال المتحركة… درنة” والذي يحوي من الزيف والكذب ما مقداره 90% دون مبالغة. ونشرت حوله مقالة تحت عنوان “قناة الجزيرة تحرك رمال الكذب في درنة” نشرت بموقع 218.
لسبع سنوات دفعت درنة ثمن تلاعب قناة الجزيرة بهذا النسيج الاجتماعي، ومنذ العام 2011 كانت تلمع الإرهابيين فيها، العائدين من سجن جوانتانامو أو العائدين من أفغانستان والعراق ومالي، وكانت تقوم بتمويلهم مباشرة مثلما فعلت في أفغانستان والعراق، ومثلما كانت حصريا تبث بيانات تنظيم القاعدة، ودرنة مازالت تعاني جريرة الإرهابيين الذين تقلدوا مناصب كبرى في العاصمة ودعموا الجماعات الإرهابية فيها بالمال والسلاح وبالوعود الكاذبة.
ومازالت هذه القناة المخادعة تؤذي الآلاف من أمهات وأقارب وأصدقاء المئات الذين ذبحتهم أو قتلتهم هذه الجماعات الإرهابية التي تصر على تسميتهم بالثوار. وكانت تذبح بسكينها الإعلامي الحاد هؤلاء الضحايا من جديد. إنهم ضحايا من نخبة هذه المدينة، بين قضاة ومحامين وأساتذة جامعات وعسكريين وإعلاميين وناشطين على المواقع الإلكترونية ، يحصون بالمئات وأسماؤهم موثقة ومسجلة في وثائق هذه الجرائم التي تلمعها الجزيرة ويباركها مفتي الديار ، ويدافع عنها أعضاء المؤتمر الوطني الذين انتخبهم الدراونة لحظة غفلة كي يحققوا مصالح مدينتهم ، فأخذوا ترخيص عضويتهم منها ثم نزحوا منها دون رجعة حتى الآن.
أما مجلس النواب فلم تشارك درنة بأعضاء فيه لأن هذه المجموعات التي تسميها الجزيرة وبناتها بالرضاعة ، النبأ والتناصح وغيرها، تسميهم الثوار، هجموا علينا في مراكز الاقتراع بالتهديد بالسلاح وبالقنابل اليدوية وهم يكبرون ويهتفون بسقوط طواغيت الديمقراطية والانتخابات والدولة المدنية. بعض هؤلاء ظهروا في أشرطة قناة الجزيرة كضباط بعد أن أُلبِسوا ملابس عسكرية وقدمتهم كثوار يدافعون عن فبراير ضد ما تسميه “ميليشيات الكرامة” في وصفها للجيش الوطني الذي لولاه لما كنت الآن أكتب هذه المقالة، ولربما كنت جثة مدفونة في غابة بومسافر التي كانت متنفس الدراونة وتحولت إلى مقبرة جماعية للأبرياء من قبل من دعاهم مفتي الديار العنصري للجهاد ضد إخوانهم الليبيين من القبائل المحيطة بدرنة، تلك القبائل التي دفعت خيرة أبنائها دفاعا عن درنة العام 1912 وقاومت الغزو اٌلإيطالي لمدة 20 سنة حتى اضطر الغزاة لاعتقالها بالكامل ووضعها داخل أسيجة شائكة في الصحراء في عملية إبادة لم يشهد التاريخ مثلها.
بيتي على الطريق العام في قرية كرسة في المدخل الغربي لمدينة درنة، منه شاهدت مواكب داعش والقاعدة أو ما سمي فيما بعد “مجلس شورى مجاهدي درنة” وهي تتسكع بين درنة ورأس الهلال، في أجمل أماكن ليبيا ، وحيث كانت من جبال جنوب غرب رأس الهلال تقذف بصواريخ “الجراد” سكان منطقة الأبرق ومطارها المدني، قبل أن يطردها رجال الجيش الوطني من هذه المناطق ويحاصرها داخل مدينة درنة. ذلك الموكب الذي كان يؤدي عرضا احتفاليا بعد تفجيرات مدينة القبة التي راح ضحيتها أكثر من 40 مدنيا، بثت قناة الجزيرة صورة على أنها وثيقة لموكب داعش الذي خرج من درنة تحت مرأى الجيش من مدخلها الغربي.
أثناء معركة تحرير درنة كانت تمر أمام بيتي يوميا سيارات الإسعاف بعوائها الجارح وهي تنقل الجرحى من الجيش إلى مستشفيات أعرف أن لا إمكانيات فيها أبدا، فأدرك في داخل نفسي أن أغلب هؤلاء الجرحى سينتقلون من المستشفيات البائسة إلى المقبرة، بينما جرحى داعش والقاعدة كانوا ينقلون عبر مطار مصراتة للعلاج في تركيا.
قريتي الصغيرة كرسة دفعت ثمنا باهظا من خيرة شبانها الذين تطوعوا لتحرير مدينتهم الغالية وضحوا بأرواحهم في سبيلها. لكل ذلك أنفعل وأغضب حين تستعين قناة الجزيرة بأشخاص من هذه المدينة كي تظهر الصورة الزائفة لما يحدث، وتجرح بكذبها قلوب أمهات وآباء وأبناء الشهداء، وتحاول أن تتلاعب بعلاقة تاريخية بين هذه الحاضرة الصغيرة ومحيطها الاجتماعي الذي لا يستغني عنها ولا تستغني عنه مهما حاول الشياطين أن ينزعوا الظفر من لحمه.
رغما عن القنوات التي ترعب مالكيها فكرة نجاح أي مشروع ديمقراطي في المنطقة، ورغما عن كل هؤلاء الذين يكفرون الدولة المدنية، أو الذين يسفهونها تحت أي شعار بديل ومن منطلق مصالح خاصة أو جهل بالتاريخ، ستقوم الدولة المدنية لأنها تشكل جزءا مهما من ذاكرة هذا الوطن، امتد من الاستقلال إلى يوم الانقلاب المشؤوم، وهي الدولة التي كان علمها ونشيدها رمزين لانتفاضة فبراير منذ أول يوم.