خيانة المستبد وفاءٌ للضحية: تعقيب على حديث البراني اشكال
سالم العوكلي
تمضي الأزمات الماكنة والأوقات التاريخية الكثيفة التي تُمتحن فيها العقول والضائر ومعادن البشر، ورغم كل ما سيحيط بها من لغط تروجه أصوات استفادت أو تضررت من هذه النقلات التاريخية، إلا أن ما يبقي تلك المواقف التي اتُخِذت في لحظةٍ كان الضباب يطبق على المشهد والرؤية الغائمة لا تتجه إلا لأعماق النفس البشرية وهي تتعرض لامتحان صعب، وهي مواقف مهما أحاط بها اللغط لا يمكن للتاريخ أن يخذل نزاهتها لحظة اتخاذها، ولا يمكن للقيم الإنسانية إلا أن تدرجها في سُلمها الذي تنصبه في مثل هذه الأوقات العصيبة، خصوصا تلك المواقف التي تتخذ في زمن الشدة، والتي يكون صاحبها مرتبطا عضويا ومصلحيا بالسلطة التي رأى في لحظة ما أنها أخلاقيا افتقدت شرعيتها وأصبحت (خيانتها)، إن صح التعبير، وفاءً للضحايا الذين تمردوا عليه من أجل حريتهم وكرامتهم، وإخلاصا للضمير الإنساني وللقيم الأعلى من هذا الارتباط المصلحي.
ما أود الإشارة إليه في هذا الصدد موقفين شهيرين لرجلين انطبقت عليهما المعطيات السابق ذكرها، وهما: عبدالرحمن شلقم رئيس البعثة الليبية في منظمة الأمم المتحدة.
واللواء البراني أشكال آمر كتيبة امحمد المقريف حتى يوم 19 أغسطس 2011 .
وهي مواقف ستظل ماثلة في أذهان الليبيين رغم كل محاولات التشويش عليها التي قادتها أصوات هي ضد التغيير من الأساس. وهي مواقف لم تكن سهلة على الإطلاق انحازت في لحظة اختبار صعب للضمير وحده.
موقف شلقم (25 فبراير 2011) أنقذ مدينة بنغازي من مجزرة ودمار. وموقف البراني أشكال (19 أغسطس 2011) أنقذ مدينة طرابلس من مجزرة ودمار.
ومن هذا المنطلق لا بد أن ينظر إليهما، دون الالتفات إلى لغط من كان مع أو ضد، أو تقييم هذه المواقف في ظل التداعيات التي مرت بها البلد فيما بعد، والتي لا تعني شيئا لمن وجد نفسه في لحظة صعبة من التاريخ، وهو يملك القرار، مخيرا بين أن ينحاز للسلطة التي يعمل تحت ظلها وبين أن ينحاز للملايين المنتفضة من شعبه ضد هذه السلطة الجائرة.
ولأن هذا التعقيب معني باللقاء الذي أجرته قناة 218 مع اللواء البراني أشكال فسأكتفي بالحديث عن هذا الموقف الذي أحترمه جيدا مثلما سيحترمه التاريخ حين يكتب بنزاهة وموضوعية.
ما لاحظته من حديث السيد البراني، أنه، أو كأنه أراد أن يتنصل من هذا الموقف، أو يهدئ من حالة الاستهجان التي أحاطت به من قبل أناس من قبيلة كان لابد أن يستهجنوه لأن الحدث برمته أطاح بنفوذهم ومصالحهم، خصوصا أن هذا الاستهجان بدأ مبكراً وحتى قبل أن تدخل ليبيا هذا النفق، الذي كان لا مناص من دخوله بعد أربعة عقود من حكم الفرد الشمولي وتفريغ البلد من المؤسسات ومن البدائل السلسة لانتقال السلطة.
دافعَ البراني عن نفسه ضد من يتهمونه بالخيانة، وكأن البراني تنصل من سلطة شرعية وصلت إلى الحكم عبر آليات ديمقراطية، بينما الخيانة هي التي مارسها القذافي لأربعة عقود ضد رفاقه الذين اتفق معهم على تسليم السلطة لحكومة مدنية بعد الانقلاب وأعدم الكثيرين منهم أو حكم عليهم بالمؤبد عبر اتهامات مفبركة لينفرد بالسلطة.
الضمير التاريخي يقول إن البراني كان سيخون ضميره وشعبه لو نفذ الأوامر الموجهة إليه بأن يحيل طرابلس إلى ساحة معارك شوارع في وقت كان النظام السابق يحتضر فعليا، والضمير التاريخي يقول إن محاولة إرضاء أشخاص من القبيلة أو الحاشية لا تكون على حساب شعب برمته.
حاول البراني أن يوضح، أو يرضي بعضا من أقاربه نازلا بموقفه إلى مرتبة ليس بالإمكان أبدع مما كان، غير أن الوطن أكبر من القبيلة وأكبر من هؤلاء الذين خسروا كل شيء بنهاية السلطة المستبدة، وأن التاريخ أكبر من لحظة احتضار نظام سياسي كان قد بلغ مرحلة الشيخوخة والخرف، والأمر كان كأن البراني الذي دخل التاريخ الوطني من باب أمامي واسع يريد أن يخرج منه عبر باب خلفي ضيق لإرضاء حفنة ممن استهجنوا موقفه التاريخي، أو كأنه يتنازل عن موقف تاريخي من أجل حظوة اجتماعية زائلة.
تطرق أيضا إلى الأوضاع الراهنة محتجا على هذا الاقتتال المستمر بين الليبيين، وكانت دعوته الواضحة لحوار يشمل كل القوى على الأرض التي حددها بجماعة الإخوان المسلمين، والجماعة الليبية المقاتلة، وأنصار الشريعة، والجيش الليبي، والبرلمان، من أجل إيقاف هذا الاقتتال بين الليبيين . دعوة فضفاضة لحوار مستحيل غير أنه وفي مفارقة ملفتة كان في الوقت نفسه يتبرأ وينكر أنه اتصل يوما ما بالمجلس الانتقالي أو الحوار معه حين كان الاقتتال بين الليبيين على أشده. وأثبت أنه صادق في عدم اتصاله بأي أحد من المجلس الانتقالي غير أنه أثبت عدم صدقه في دعوته للحوار بين الأطراف الليبية التي شملت حتى الجماعات المصنفة إرهابية، محليا ودوليا. وكان يعتبر الحوار الذي يدعو له الآن خيانة لو حصل آنذاك مع المجلس الانتقالي.
أما المحاولات التي تتكرر كثيرا وتحاول أن تظهر القذافي قائدا أو ملاكا أحاطت به شياطين فهي نوع أيضا من الدفاع عن الذات لكنه متناقض مع كل ما فعله القذافي خلال أربعة عقود من جرائم داخل الوطن وخارجه، ومتناقض مع كونه استلم دولة العام 1969 على طبق من ذهب وتركها خرابة بكل معنى الكلمة، استلم دولة تحقق فيها السلم الاجتماعي وتركها على حافة حرب أهلية مازال نزيفها مستمرا حتى الآن، وما حذر منه القذافي في خطابه وما حذر منه ابنه سيف كان متوقعا لأن البذّار يعرف ما خرج من يده، ولأن السيناريو الذي حذرا منه خُطط له عبر عقود من تأسيس دولة أمنية عمرها بمقاس عمر الدكتاتور .
والجميع يدرك أن لا جريمة وقعت داخل أو خارج ليبيا إلا بأمر منه، والجميع يدرك أن ثمة مقربين جاهزين لتحويل كل لحظات جنونه إلى فعل، والجميع يدرك والقذافي نفسه يدرك أن اللواء البراني وغيره من الوطنين ذوي الضمائر الذين عملوا بمهنية في ظل النظام لا يمكن أن ينفذوا جنونه لذلك كانت مكالمة القذافي مع البراني الأخيرة منطلقة من هذه المعرفة لصاحبه حين وافقه على عدم هدم المباني على الشبان فوق سطوحها، والجميع يدرك أن أوامره اتجهت للحاشية التي يعرف أنها ستنفذ أوامره وهي مغمضة العينين، لكن القرار الصعب الذي اتخذه البراني باعتباره آمر الكتيبة المختصة بحماية مقراته وبحماية طرابلس وقتها هو الذي أنقذ طرابلس من مجزرة ودمار كبير.
كانت حكومة طرابلس في ذلك الوقت مسيطرا عليها من قبل كتائب وميليشيات وحرس ثوري مثلما يحدث الآن لما يسمى بحكومة الوفاق المسيطر عليها من قبل كتائب وميليشيات وحرس ثوري، بعد أن انقلب الإسلاميون على ثورة فبراير ليقودوا البلد إلى ما هو أسوأ من حقبة القذافي، وأتمنى أن يخرج في طرابلس الآن من هم بشجاعة وأخلاق البراني ليجنبوا طرابلس حربا مدمرة وأن يعود أفراد هذه الميليشيات الخارجة عن القانون إلى عشائرهم وبيوتهم مثلما حدث يوم 19 أغسطس 2011 . لكن الفارق أن تلك الكتائب كانت تتلقى أوامرها من ضباط ليبيين، وهذه الميليشيات المؤدلجة أو المأجورة تتلقى أوامرها من سلطات دول ترعى جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من الجماعات الإرهابية، ولا يهمها إن احترقت طرابلس أو تحولت إلى مقبرة.