خيانة الأمانة
عبدالحفيظ غوقة
لم يسبق لي أن كتبت عبر هذا الفضاء عن المجلس الوطني الانتقالي الذي كنت متحدثًا باسمه ونائبًا لرئيسه حتى تاريخ استقالتي منه في 2012/1/19، وعن تصرفات ومواقف وأحداث لا يُعرف عنها الكثير ، وإن كنت قد أثبتت شهادتي حول الكثير من المحطات المفصلية التي مرت بها ثورة السابع عشر من فبراير من خلال برامج توثيقية محلية وعربية؛ تاركًا سرد تفاصيل الأحداث التي شاركت في صنعها وكان لي دور فيها، كما سبق ووعدت الأصدقاء والمتابعين المهتمين؛ لكتاب سيصدر في وقته .
ما دعاني للكتابة هنا؛ مسألةٌ تثور من حين إلى آخر وتُشعل غضبًا وسخطًا شعبياً واسعاً، وهي مسألة أوجه وكيفية تصرف مسؤولي الدولة في المال العام، واستغلال سلطات وظائفهم للإضرار عمدًا بهذا المال، وتبديده وإهداره، وهم المؤتمنون على حفظه وصيانته، وسأُجري مقارنةً بين تصرف المجلس الوطني الانتقالي والذي عمل في ظروف الثورة والحرب والاضطراب، وبقية الأجسام التي تولّت السلطة من بعده سواءً بواسطة الانتخاب من الشعب كالمؤتمر الوطني العام ومجلس النواب أو بإرادة دولية كالرئاسي السابق وحكومته أو الرئاسي الحالي وحكومته، مرورًا بما يُسمّى مجلس الدولة.
ففي حين تضمنت تقارير ديوان المحاسبة وتقارير هيئة الرقابة الإدارية، وأشارت إلى مخالفات وتجاوزات لا حصر لها علي المال العام من قبل المسؤولين المؤتمنين عليه في تلك الأجسام مؤتمر وطني وحكومته، نواب وحكومته، و”رئاسي” سابق وحكومته ومجلس دولة ورئاسته، وصولاً إلى ما تم الكشف عنه مؤخرًا وشكّل نموذجًا صارخًا للسفه والوقاحة في تصرف المسؤول، والذي أجزم أنه غيضٌ من فيضٍ، تجاوزات ومخالفات سيتم الكشف عنها لاحقًا لحكومة الوحدة الوطنية ورئاستها في مسلسل التبديد والإهدار للمال العام؛ أقول في حين ترصد تقارير ديوان المحاسبة كل تلك التجاوزات طيلة تلك الأعوام؛ فإن تقريرها الصادر بنتائج أعمال لجنة الفحص والمراجعة لحسابات المجلس الوطني الانتقالي المؤقت منذ بداية التأسيس وحتى 2012/5/31 والتي قسّمها التقرير الي فترتيْن، الأولى اعتبارًا من 2011/4/9 وحتى 2011/12/31 وهي الفترة التي تعنيني وسأقصر حديثي حولها لأنني كنت المخوّل الأول بالتوقيع على أذونات الصرف خلالها، حيث كانت مصادر التمويل خلالها من الحوالات الواردة من دائرة المالية مبلغ قدره ( 10,734,277) دينارًا لا غير ، حيث بلغ ما تم صرفه منها حتى 2011/12/31 (5,795,827) دينارًا ، أي بنسبة صرف 54% من إجمالي التمويل، وهذا ما يؤكد عدم وجود إنفاق في ذلك الوقت، وكذلك يعكس حالة البلاد حيث كانت في حالة تحرير وليست حالة تأسيس، كما جاء حرفيًا بهذا التقرير ، الذي فصّل أوجه الصرف والحسابات على مدى 15 صفحة كاملة.
وأشار تقرير لجنة الفحص والمراجعة إلى وجود وفر في اغلب بنود المصروفات بحيث إن نسبة الوفر إلى المنصرف تعادل 46%، فأشارت مثلاً إلى بند نفقات السفر والمبيت وأن الاعتماد المخصص له بلغ عن تلك الفترة مبلغ ( 600,000 دينار )، في حين بلغت مصروفات السفر والمبيت نحو ( 64,000 دينار ) بما يعادل 1% فقط من إجمالي قيمة المصروفات خلال الفترة و 11% من قيمة التفويض المعتمد لها، حيث جاء في التقرير، واعتقد أنها سابقة في هذا الشأن، إشادة بذلك فتضمن التقرير حرفيًا: “وهذا في الحقيقة يعكس مدى حرص أولئك النفر، الذين قادوا البلاد في تلك الفترة، حيث لا يخفى علي ذي لبٍّ كم كانت تحركاتهم وتنقلاتهم، ولكن كان الهدف كبيرًا والمقصد نبيلاً فتم التوفيق”.
ما دعاني لقول ذلك وإظهار هذه المقارنة الفارقة؛ هو الأسى والأسف على التفريط في الأمانة وخيانتها من قبل المؤتمنين عليها، فإقامة ليلتيْن لبضعة أشخاص تكلف خزينة الدولة ما يتجاوز، بحسب ما تم الكشف عنه مليون وأربعمائة ألف دينار، في ظل ظروف وأزمات تتخبط فيها البلاد ويُعاني ويلاتها العباد.