خفة دم المصريين… إرث فرعوني
زاهي حواس
منذ بدء الخليقة والإنسان المصري بشوش الوجه، خفيف الظل، سريع النكتة، حتى لو كانت على نفسه، وهو يبدأ بالضحك على نفسه وعلى الآخرين. وقد احتفظت لنا الآثار المصرية القديمة بأقدم صور الكاريكاتير في العالم كله، التي تعكس خفة ظل المصري القديم، وميله إلى نقد الأوضاع المحيطة به، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
وقد استخدم الفنان المصري القديم جدران المقابر وأوراق البردي لتسجيل كثير من المشاهد الكاريكاتيرية الصامتة، ولكنها تعبر أيما تعبير عما كان يريد نقله إلى المشاهد، مثل ذلك الراعي الشديد النحافة الذي ترى عظامه أسفل الجلد وهو يقوم برعي بقرات سمان! أو ذلك الحارس الذي صُور نائماً بجوار باب المخزن الذي يحرسه! أو ذلك القرد الذي يهجم على صبي صغير سرق بعض الفاكهة من بائع في السوق!
وإلى جانب هذه المشاهد المصورة على جدران المقابر، كان العمال والفنانون يستغلون أوقات فراغهم في كتابة النكات، وتبادل القفشات والرسوم الكاريكاتيرية، ولعل أبدعها هذه القطعة التي صورت فأراً عجوزاً سميناً منعماً، يلبس فاخر الثياب، ويجلس على كرسي وثير، ويقوم على خدمته قط يقدم له مشروباً.
ولأن الفأر كان منعماً، فإنه يتناول مشروبه المفضل عبر شفاطة (شاليمو)! وهناك كاريكاتير آخر يصور ذئباً يرعى قطيعاً من الأوز، وآخر يصور قطاً سميناً يرعى جماعة من البط! والأخير يعكس المثل المصري المعروف: «مسّكوا القط مفتاح الكرار».
وكاريكاتير آخر يصور لنا فأراً، ولعله ذلك الذي صُور من قبل منعماً، ولكن هذه المرة في صورة قاضٍ يفصل بين متخاصمين. وهناك كاريكاتير شديد التعبير يصور قرداً واقفاً أسفل شجرة ممسكاً بإناء، بينما هناك خادم قد تسلق الشجرة لإلقاء الثمر للقرد! وفي هذا تعبير عن انقلاب الأحوال في المجتمع، وتغير الموازين. وبالطبع، فإن معظم ألوان الفكاهة والسخرية قد ظهرت في الفن والأدب المصري القديم في فترات الاضطراب. وكانت النكتة مؤثرة، بدليل ما عثرنا عليه في رسالة يقول فيها موظف إنه فقد وظيفته، بعدما ضبطه رئيسه في العمل يطلق نكتة خارجة عن حدود الأدب!
وكما ذكرت، فإن هذه الروح المرحة ظل المصريون يتوارثونها جيلاً بعد جيل، وأخرجت لنا عباقرة في فن الفكاهة، وأهمهم صديقي الراحل أحمد رجب، وصديقي الراحل مصطفى حسين، في فن الكاريكاتير. وأحمد رجب حالة خاصة، فهو كان يتكلم معي مثلما يكتب «نصف كلمة».
وكان يطلق النكات، ويجعلنا نضحك من القلب. وكنت أنا وعمر الشريف نجلس معه، ولا نفعل شيئاً غير أن نضحك. وكنت أتحدث معه تليفونياً في الساعة الخامسة عصراً، وإذا خالفت الموعد ولم أتصل به، كان عقابه قاسياً بألا يتكلم معي
. وقد حدث أن دُعيت على الغداء في منزل السيدة جيهان السادات، وكان عدد الحضور كبيراً، وكان في مقدمتهم أحمد رجب. ووجدت صديقي إبراهيم المعلم يقول: «إحنا قرينا النهارده إنه قبض عليك في كمين سقارة»، وكانت «نصف كلمة» أحمد رجب تقول: «زاهي حواس ضُبط في طريق سقارة وهو يقبل الملكة حتشبسوت».
وأعتقد أنه في الـ100 مليون مصري، لا يوجد من هو أخف دماً من الراحل أحمد رجب؛ كان شخصية أسطورية لن تتكرر، ومن الصعب أن نجد شخصاً يكتب «نصف كلمة» مثله، وكان عبارة عن كتاب ضخم يضم كلمات خفيفة الظل، ونكات هي إرث فرعوني عمره خمسة آلاف سنة.