مقالات مختارة

خديعة الإسلام السياسي غير العنيف: من صام مع الإخوان أفطر مع داعش

سعيد ناشيد

الحجة التي كانت قد قدمتها معظم تيارات الإسلام السياسي لأميركا ولدول الاتحاد الأوروبي وللأنظمة المحلية، تتجلى في كونها تنظيمات معتدلة، متعاونة، لا تمارس العنف وتقبل بالحوار، والحال أنه في غمرة التركيز على الجوانب الشكلية للحوار نسي الجميع الأساس، والأساس هو مضمون الحوار: ماذا يقال في الأضواء الكاشفة وماذا يقال في الكواليس المظلمة؟ ماذا يقال في المنشط وماذا يقال في المكره؟ ماذا يقال لأولي الأمر وماذا يقال للأتباع؟ ماذا يقال في البرلمان وماذا يقال في المساجد؟ ماذا يقال للغرب وماذا يقال للمسلمين؟ ماذا يقال في الحزب السياسي وماذا يقال في الذراع الدعوي؟

لنكن صرحاء أيضا، حين يكون عدم ممارسة العنف حجة أساسية.. أفلا يكون ذلك اعترافا ضمنيا بأن الأصل هو العنف.

في محاولة رفع اللبس، ودرء الفتنة أيضا، انتهى رأي البعض إلى ضرورة التمييز التنظيمي بين المستوى الدعوي والمستوى السياسي، لكن، درءا للعلمانية المرفوضة فلا يجب أن يصل الأمر إلى حدود الفصل. لأجل ذلك سبق لسعدالدين العثماني أن أصدر كتابا بعنوان: “الدين والسياسة، تمييز لا فصل”. تتعلق المسألة عموما بإعادة هيكلة وتوزيع الأدوار أملا في إرضاء خواطر متباينة: أولي الأمر، الأتباع، الغرب، والمجتمع المدني.

الحقيقة أن معظم الحجج الفقهية والنظرية لم تكن مقنعة طالما كان يعوزها الحد الأدنى من الوضوح والانسجام، إلا أن الضغط الذي تعرض له الإسلام السياسي بسبب عنف أطيافه الجهادية قد جعل الأتباع يتقبلون خيار التمييز بين الدعوي والسياسي، وذلك بعد إفراغ التمييز نفسه من أي محتوى فكري. وليس يخفى أن الموقف السياسي الذي لا يستند إلى رؤية فكرية يكون سريع التقلب، اللهم إذا كان القصد هو المحافظة على التقلب.

في غياب الرؤية الإستراتيجية المستندة إلى العلوم الإنسانية كان مبلغ هم الحكومات -ضمن ما سمي بالمراجعات- هو التركيز على موقف المتطرفين من الحاكم حصرا. ففي المغرب ركزت السلطة على التأكد من اعتراف الإسلام السياسي بإمارة المؤمنين، دون النظر إلى سائر المسائل المتعلقة بالحريات والأقليات والمرأة إلخ، الأمر الذي أفسد الحياة السياسية، بحيث صعد الإسلام السياسي بسرعة قياسية عقب الإجهاز على تجربة التناوب، ولم يجد أمامه مجتمعا مدنيا قويا يصده. كذلك حدث في مصر حيث جرى التركيز على التسويات الظرفية على حساب المعايير الديمقراطية، فانتهى الأمر إلى صعود الإخوان والسلفيين في انتخابات ما بعد ثورة 25 يناير 2011.

كما لا تخفى القصة المأساوية لصعود “معتدلي” الجزائر الذين استعجلوا التمكين، فأطلق زعيمهم علي بلحاج وعيده المدوي لحظة فرز النتائج: اليوم بدأت الديمقراطية واليوم تنتهي.

خديعة استغلها الإسلام السياسي منذ أزيد من عقدين من الزمن، وشهدت رواجا بين مختلف الأوساط الدولية والإقليمية والمحلية. فقد نجح الإسلام السياسي “غير العنيف” في تسويق نفسه كبديل عن الإسلام السياسي “العنيف”. هذا في الوقت الذي اقتصر فيه الهاجس الأمني لعديد من الدول على تفادي وقوع أي عملية إرهابية فوق أراضيها. لكن أي معنى للأمن الداخلي في زمن عولمة الإرهاب؟

لكن، رغم سوء المآل وتردي الأحوال واشتعال الفتن، وقدرة “المتطرفين” على ابتلاع “المعتدلين” في أكثر من مكان ( مصر، ليبيا، اليمن، سورية، وغيرها )، من المستغرب وجود أشخاص لا يزالون يراهنون على إمكانية استثمار الجماعات التكفيرية الأقل تشدّدا لأجل مواجهة الجماعات التكفيرية الأكثر تشدّدا، تبعا لقاعدة درء المفسدة الكبرى بمفسدة صغرى.

الأشدّ غرابة في الموضوع وجود فاعلين سياسيين يظنّون -من باب الفاعلية السياسية- أن بعض جماعات الإسلام السياسي قد تصبح معابر سالكة لمرور بعض مقتضيات الحداثة السياسية إلى عقول سائر المسلمين، طالما أن تغليف الفكرة بغلاف ديني يجعلها مقبولة من طرف الجمهور. ولأجل تحقيق هذا الهدف، ليس مطلوبا منا سوى العمل على ترميم الإسلام السياسي وإعادة تدويره عن طريق الممارسة السياسية.

يكمن الخطأ الذي يقع فيه بعض المشتغلين بالسياسة في اعتقادهم بأن كل المشاكل يمكن حلها بواسطة الموقف السياسي. هذا الخطأ يشبه كهف أفلاطون الذي يكتفي فيه الإنسان بالنظر إلى المظاهر الحسية. وعلى سبيل المثال، تكمن معضلة العنف في أنه لا ينبع بالضرورة من الموقف السياسي المعلن، والذي يمكن تعديله بسهولة في بعض الأحيان دون أن ينعكس ذلك بالضرورة على مآل الأمور. كما ليس يخفى أن بوسعنا أن نقول في السياسة عكس ما نمارسه في الواقع، وأن العبارات الصحيحة في الحقل السياسي قد لا تكون كذلك في سائر الحقول الأخرى. ذلك أن معضلة العنف تكمن في الخلفية الفكرية والرؤية الثقافية والمفاهيم المرجعية لصناع القرار وصناع الرأي العام.

ومن باب الاستدلال نقول، لا نستطيع أن نفهم روح الدستور الأميركي دون أن نطلع على مبادئ جان لوك، والتي استلهمها الآباء المؤسسون. كما أننا لا نستطيع أن نفهم وحدة الإرادة العامة ضمن الدستور الفرنسي دون الرجوع إلى مبادئ جان جاك روسو، معلم فرنسا. بالمثل لا نستطيع أن نفهم المواقف الإيرانية دون الرجوع إلى مؤلفات وفتاوى آيات الله، الأحياء منهم والأموات.

ولأننا لا نقصد محاكمة النوايا، سنكتفي بالنظر إلى المرجعيات المعلنة ثم نتساءل: هل يمكن لابن تيمية وسيد قطب (ابن تيمية هو الجذع المشترك القديم وسيد قطب هو الجذع المشترك الحديث لكافة أطياف الإسلام السياسي) أن يشكلا فرصة لإنتاج إسلام سياسي حداثي ديمقراطي ينتمي إلى روح العصر، أم أن الأمر يتعلق بمجرد رهان مفلس؟ لسنا ننكر بأن العقول تتغير، وأن الأذهان تتغير، وأن الوعي يتغير، وأن لا شيء ثابت، فالتغيّر سنّة الحياة.

لكن هناك قاعدة مكملة، من لا يتغيّر يموت، ومن غير المعقول أن نتصور بأن كل الأيديولوجيات تستطيع أن تتغير. والمشكل الباقي أن بعض الأفكار تحتاج إلى الموت الرحيم.

فعلا، لقد سبق للخارجية الأميركية، ومعها معظم الدّوائر الغربية، أن راهنت على الإسلام السياسي قبل وإبان ما كان يسمى بالرّبيع العربي، وعلى منوالها سارت دول إقليمية محددة على رأسها قطر وتركيا، أملا في تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية كانت تبدو حينها رهانا ممكنا:

أوّلا، ضمان قدر من الاستقرار: بحيث كانت حركات الإسلام السياسي، على رأسها الهيئات الدّولية الممثلة للإخوان المسلمين، تبدو كأنها الأقدر على إعادة ضبط الأمن والاستقرار داخل مجتمعات ما بعد الثورات. لاسيما وأن الأمر يتعلق بثورات أطلقها الشباب في الشارع بأسلوب عفوي وباستعمال آليات التواصل الاجتماعي. لكن بعد إجهاض الثورات وعقب السّقوط المدوي للإخوان المسلمين بين أحضان التغول الجهادي والتكفيري ـ بصرف النظر عن مظلوميتهم- فقد أصبح الاستمرار في نفس الرهان يفتقد إلى الحد الأدنى من المعقولية.

ثانيا، المصالحة بين الديمقراطية والإسلام السياسي: لقد كان هذا الرهان يبدو مبررا ولو في حدود معينة، لاسيما بالنظر إلى تجربة إسلاميي ما بعد أربكان، في تركيا، والتي أوحت بأن الإسلام السياسي قادر على تطوير منظومته الأيديولوجية نحو أكبر قدر من العلمنة، في اتجاه قد يسمى “ما بعد أربكان”، غير أن “تدعوش” السياسة التركية بعد “تأخونها” السريع جراء الحالة الانفعالية التي أثارتها “فقاعة الثورات”، كل ذلك قد أسقط القناع عن الوجه “السلطاني” للتجربة الأردوغانية.

ثالثا، سحب البساط من تحت أقدام التطرّف الجهادي التكفيري: وقد كان الرهان معقودا أيضا على أنّ التصدي للإسلام الجهادي التكفيري لن يكون ممكنا إلا من داخل نفس منظومة الإسلام السياسي، وأن مفاهيم الوسطية والاعتدال التي أشهرتها بعض الجماعات الإسلامية، ولو من باب السياسة السياسوية، تكفي لكي تمثل سدّا منيعا في وجه الإرهاب التكفيري، غير أن أولى نتائج ما كان يسمّى بالرّبيع العربي، وأكثرها بداهة، أن مساحة الغلو والفتنة زادت اتساعا في مرحلة حكم الإسلاميين في مصر وتونس وتركيا، وفي ظل قيادة الإسلاميين للثورات المغدورة في سوريا واليمن، إلى درجة أن ليس من المبالغة في شيء أن نعيد التذكير بإحدى خلاصاتنا في الموضوع: الدرس الأول من دروس الثورة السورية الموءودة: من صام مع الإخوان أفطر مع داعش.

الأطراف والجهات التي لا تزال إلى حد الساعة تتوهم إمكانية توظيف بعض جماعات الإسلام السياسي الأقل تشدّدا أو إعادة تدويرها لغاية مواجهة جماعات الإسلام السياسي الأكثر تشدّدا، إنما تراهن على الفرص الخاسرة في الحساب الأخير. لقد أعدّ الإسلام السياسي بكل أطيافه عُدّته وذخيرته لغاية وحيدة: مجابهة الحداثيين واليساريين والليبراليين والعلمانيين والذين ينتمون ظاهريا إلى خارج الثقافة الإسلامية. وهو لذلك يجد نفسه اليوم بلا ذخيرة أمام غلاة الدين الذين ينتمون إلى داخل منظومة الثقافة الإسلامية. والواقع أنّ الإسلام السياسي “المعتدل” هو الذي أوجد قواعد اللعبة التي منحت الامتياز لغلاة الانغلاق.

لقد قام الإسلام السياسي على أساس تسييس الدين، ما يعني تبذير الإرث الروحي للشعوب في معارك الصراع على السلطة، وتلك خطيئته الأصلية. لكنها نفس الخطيئة التي يقترفها اليوم من يستجيرون من تغول الغلو بالرهان على غلو أقل تغوّلا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى