حين تتأمل وتسأل: أين طرابلس التي نعرفها؟!
مازن سعد
زيارة قصيرة إلى ليبيا قضيتها متجولا مذهولا وغير مستوعب في أحيان كثيرة ، تداخلت الرؤي وأستعصى علي فهم الكثير من المواقف التي مررت بها ، فما أن وطئت قدماي أرض مطار معيتيقة حتى لفت انتباهي أن عشرات من الشباب يرتدون ملابس رثة غير مبالين بمظهرهم العام وهو أمر أعي جيدا أن الليبيين والطرابلسيين على وجه خاص كانو يعيرونه اهتماما كبيرا ، ولكن زيارة خاطفة فيما بعد لأحد محال بيع الملابس بددت كل التفاسير لدي.
وبجوار هذه المحال وجوه شاحبة أثقلتها هموم المعيشة وماعاد الصراع سياسيا كان أو عسكريا يشغل بالها بقدر ما تشدها وتجذبها كيلوات من السلع المدعومة التي لا حديث يعلو عليها أينما حللت
قضيت يومي الأول في ضيافة أحد أقاربي وما أن استيقظنا حتى بدأ رحلته في البحث عن الحياة في ثنايا طوابير لا بديل عنها ، فالحصول على أرغفة من الخبز الباهض الثمن يتطلب الوقوف لدقائق وما أن تنتهى رحلة الخبز حتى تدخل في متاهة البحث عن مراكز غدائية لبيع السلع المدعومة ، وإن لم تكن محظوظا يتعين عليك التوجه “لشيل البنزينة” قبل أن تنصرف إلى مستودع لبيع الغاز وبعد رحلة ينتصف فيها النهار تعود لبيتك والدعوات بأن لا تكون الكهرباء منقطعة ترافقك وقد تنسيك بعض الحاجيات الأخرى
بعض هذه القصص والمعايشات كان متوقعا بالنظر إلى ما تمر به البلاد ، ولكن أن يصل بنا الحال لأن تهان الحرة وتهدد بالضرب هذا ما لم أستوعبه وقادني للإستفسار من كريمات أجبرتهن الظروف للوقوف في طوابير المصارف فكانت الشهادات صاعقة فأقلهن تعرضت للسب بألفاظ نابية أمام أعين أطفالها المرافقين لها في وحشة ووحشية الطوابير
طويت الصفحة وحاولت أن لا تستحوذ على مخيلتي وإذ بموقف آخر كنت شاهد عيان عليه هذه المرة “يحز في النفس ويجبر العين على ذرف دموع تختلط فيها المشاعر بين العجز والخوف على المستقبل ”
بينما كنت في محطة للتزود بالوقود الذي كان غير متوفر في الكثير من المناطق أيام العيد وبعد وقت ليس بالقصير – “وصل فيا الدور ” وأنا على يمين “البومبة” وسيدة على يساري تتقدم باتجاهها ، وإذ بشاب عشريني يسرع من الجهة الأخرى ويأخد مكانها ودورها بطريقة فجة وغير أخلاقية ويترجل من سيارته ويفتك “الماكنة” من العامل البنغلاديشي بالمحطة ويشرع في التزود غير آبه بصيحة السيدة التي علا صوتها علها تجد من بين الحاضرين من يناصرها
إنزعج الشاب من صراخها وتوجه لسيارته والكل يراقب ماسيصدر عنه وإذ به يخرج بندقيته ويطلق النار بالهواء ولكن صرخات السيدة لم تتوقف وهي تردد ” أقتلنى كانك راجل ”
الملفت هنا هو أن هذه المحطة ممتلئة عن آخرها بالسيارات ولم يجرؤ أحدهم على الكلام مطلقا
المواقف كثيرة ولا يسع المقام لسردها غير أن نظرة العشرات من أرباب الأسر عشية عيد الأضحى لا تزال تحاصرني ، فمع كل سؤال عن ثمن الأضحية تتكفل لمعة العينين بالإجابة ، لن أنسى ذاك اليوم الذي يغادر فيه الواحد تلو الآخر السوق وهو غير قادر على الشراء وغير قادر على الرجوع لبيته خاوى اليدين .
أستودعها وأنا على يقين تام بأن كل الأزمات ستنجلى وإن طال الأمد ولكن وحدها الأخلاق والقيم إن فقدت …. سأترك لكم التعليق .