حياة الحميدية (5)
سالم الهمالي
لفهم التاريخ بصورة صحيحة، لا مناص من إدراك السياقات التي وقعت فيها الأحداث، فالقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، شهد أحداثا مهمة لها تأثيرها في التاريخ الليبي، شكلت الأسس والقواعد التي مهدت لنشوء دولة ليبيا الحديثة بإعلان المملكة الليبية سنة ١٩٥١ ميلادية، أبرزها: في الناحية الشرقية نشوء الحركة السنوسية، على يد مؤسسها الشيخ محمد بن علي السنوسي سنة ١٨٤٢، وانتشارها في أرجاء الجبل الأخضر ومناطق برقة وامتدادها جنوبا إلى الكفرة وشمال تشاد، وغربا الى مزدة. أما في الناحية الغربية، فأفول دولة أولاد امحمد وصراع عبدالجليل سيف النصر وغومة المحمودي مع الحكام الأتراك في مدينة طرابلس شكلا أبرز المعالم، حتى ابتليت البلاد بالغزو الإيطالي وما تلاه من مقاومة وجهاد، وما نتج عن ذلك من موت ثلاثة أرباع المليون، وعنت ومشقة ألجأت مئات الآلاف من الليبيين إلى الهجرة لدول الجوار، مصر وتونس وبر السودان.
إن كانت مدينة القيروان وجامع الزيتونة في تونس، ومدينة القاهرة والأزهر في مصر هما منارات العلم في ذاك الزمان، فإن بلدة الجديد ومنارة الحضيري هما ما قام بهذا الدور في منطقة فزان، العشرات من الشيوخ حفظوا القرآن وتعلموا أصول الفقه، وانتشروا في مناطق فزان، بل إن بعضهم له أثر في تونس ومصر. في العموم، كانت العلوم في مجملها دينية على مذهب الإمام مالك، بصبغة صوفية، أكثر توافقا مع علماء المغرب العربي.
في عموم فزان لم توجد مدارس بالمعنى المتعارف عليه حتى سنة ١٩٣٢، حين افتتح الطليان أول مدرسة ببلدة الجديد بعد أن استقرت لهم الأمور في ليبيا، لم يتجاوز تدريسها الصف الثالث والرابع أو ما يكفي لتعلم اللغة وأبسط مبادئ القراءة والحساب والعلوم، وسرعان ما أغلقت أبوابها عقب هزيمة ايطاليا في الحرب العالمية الثانية في بداية الأربعينيات من القرن العشرين.
الحميدية شهدت افتتاح أول مدارسها سنة ١٩٥٨، إذ وحتى ذلك التاريخ كان تعليم الأطفال يتم فقط في محضرة (كُتَّاب) ملحق بالجامع، يتعلمون فيه نطق الحروف وكتابتها ومن ثم كتابة وحفظ آيات القرآن وسوره. إلا أن الشغف بالعلم والتعلم أقدم من ذلك بكثير، فعلى سبيل المثال: برزت عيشة بنت بن محمد، بحرصها على تعليم ولدها الشيخ علي بن زايد (رحمه الله) في ثمانينيات القرن التاسع عشر بإلحاقه بزاوية الحضيري في بلدة الجديد، ويذكر الرواة سيرتها بكثير من الطرافة وهي ترافقه على حمارها إلى سبها، حيث حفظ القرآن، ولذلك دلالة لا تخفى بالحرص على التعليم أو ما توفر منه في ذلك الوقت، بالرغم من شظف العيش وصعوبة الحياة.
وها هي الرحال تحط بنا عند أول مشهد للحميدية، فما أن تصل إلى واحتها الواقعة في منطقة منخفضة حتى تطل عليك أشجار النخيل تحيط بها من جميع النواحي. الآلاف كانوا يقطنونها في نهاية القرن الثامن عشر، أكثرهم يعملون في السواني والحطايا المحيطة وبعضهم من أهل القوافل العابرة. ذاك العدد تناقص كثيرا حتى أصبح بضع مئات لا تتجاوز الخمس في خمسينيات القرن العشرين، نتيجة للعدد الكبير الذي مات بالأمراض المعدية كالجدري وغيره . عند الكادوس، في الناحية الشرقية تجد على يمينك مقام ولي صالح ( سيدي زايد) وإلى يسارك مقام آخر (سيدي بن قبيل)، وبجوار كل منهما جبَّانة باسمهما، حوت رفات أجدادنا الأولين. خلال كل هذه السنين التي شهدناها لم أرَ أن يدا امتدت للعبث بهما، إذ تظل عند عامة الناس قناعة راسخة أن أضرحة الأولياء الصالحين أقيمت تذكارا بسيرتهم الطيبة، وعادة ما يكونون ممن زهدوا في الدنيا وظهرت لهم كرامات، او هكذا تهيأ للناس آنذاك. لم أشهد يوما أن أحدا تعبدهم أو تعبد بهم، ولا رأيت من ينحر القرابين أو يطوف حولها، ولا من يتضرع إليهم لفك عقدة أو تغيير قدر كتبه الله.
“يوم الصدقة”، هو أحد مظاهر الاحتفال بجوار هذه الأضرحة، يوم الجمعة بعد صلاة العصر، تجتمع كل البلدة كبيرها وصغيرها من الذكور، كل يأتي بصدقة بسيطة ( قلية، كعك مخمر، بسكويت أو حلوى) تجمع في قفاف أو أوانٍ كبيرة، تخلط ثم توزع على الحاضرين من الأطفال والصغار في أجواء تبعث البهجة والسرور في النفس برؤية الأطفال فرحين بما نالوا، وبتعلمهم درسا في العطاء والمشاركة. ينتهي الاحتفال بدعاء طويل يبدأه الحاج صالح بن سليمان (رحمه الله)، ويثني أحد كبار السن من الحاضرين ويختم ثالثا بدعاء للحاج محمد بن حسن بن سيدي بن عيسى (رحمه الله).
تلك المراسم تأخذ أقل من ساعة، تفحفح في أجوائها رائحة الجاوي والفاسوخ وبركة الأولياء الصالحين، يتفرق الجمع بعدها، إما إلى العمل وقضاء حاجاتهم في السواني أو لمن ينوي الرّاحة والترفيه، فله أن يختار بين لعب (الباكور) أو حلقات أم السبع والهذرة، فعشيّة الجمعة هي الوقت الوحيد للراحة أو اللعب.
يتبع (6)
المصدر: نقلاً عن صفحة الكاتب على موقع فيسبوك