حياة الحميدية (2)
سالم الهمالي
على طرف بحر الرمال العظيم (زلاف) تقع بلدة تمنهنت او ما كانت تعرف بِ (الحميدية) حتى نهاية القرن الثامن عشر، شرقها سلسة جبلية طويلة تبدأ بجبل (غراب) وتنتشر على مساحة واسعة على هيئة جبال صغيرة، مرتبطة احيانا ومتناثرة في أحايين كثيرة، غربها رمال زلاف بلونها الأصفر الخلاب. جغرافيتها، وفرت لها ميزة جعلت منها على صغر مساحتها وعدد سكانها نقطة مهمة للقوافل التي كانت تمر عبر ليبيا من شمالها الى جنوبها او تلك التي تعبر الصحراء الليبية من المغرب العربي الى مشرقه والعكس.
الى الشمال من مدينة سبها بمسافة ٢٧ كيلومتر، والجنوب من بلدة سمنو بمسافة ثلاثين كيلومتر تتمركز الحميدية، احدى البلدات الثلاث المكونة لوادي البوانيس ( سمنو، الزيغن، وتمنهنت “الحميدية”)، يقطنها سكان اصولهم من قبائل عربية، اغلبهم امتداد لتلك القبائل التي تسكن مُدُن الساحل الليبي. عبر زلاف وبمسافة ستين كيلومتر يقع وادي الشاطئ بداية من أشكده وبوغردقة، مرورا ببلدة قيرة ومدينة براك ثم باقي بلدات وادي الشاطيء.
افتتحت عيناي على آخر ما تبقى من مرحلة (الجّبَاده)، حيث تستعمل الحمير والبغال في استخراج الماء من آبار جوفيه تسمى (سواني)، لسقاية المزروعات والنخيل والقليل من الأشجار الاخرى، ولم اشاهد بنفسي إلا تلك التي كانت تجر ذراع حديدي طويل متصل بحلقات من التروس في اشكال متعامدة، ترتبط بسلسلة من الأواني القصديرية كالعقد تصل الى قاع البئر، تصب حمولتها من الماء الواحدة تلو الاخرى مع حركة التروس المربوطة بالعمود الذي تجره البغال او الجمال احيانا. “الكادوس”، في زمانه كان نقلة نوعية كبيرة ارتبطت بالفترة التي سيطر فيها الفرنسيين على فزان في أعقاب الحرب العالمية الثانية بعد ان هُزمت ايطاليا وطرد جنودها من فزان. خرير الماء من تلك الأواني وهي تصب ماءها في الساقية ممزوجا بشيء من الصفير الذي تصدره التروس يبدو كسمفونية تعزف موسيقاها تطرف اصحاب الزرع والكادوس. في كل البلدة لم يكن هناك اكثر من اثنين او ثلاث من تلك الصناعة الفرنسية التي طورت الانتاج الزراعي وسهلت العمل على الناس، و الحمير والبغال التي كانت تقضي نهارها صعودا وهبوطا في المراجع.
لك ان تتخيل الانتقال من الدلو الْوَاحِد، الذي يحتاج الى دورة كاملة يبدأها الفلاح بإنزال الدلو الى قاع البئر لتمتلئ بالماء وَمِن تم يجرها الحمار الذي يجاهد ثقلها هابطا الى قعر المرجع حتى تصل الدلو الى فم البئر، ليلقفها الجّبادين ويفرغونها في الساقية، لتعود الكرة مرة تلو مرة، في عمل مضي وشاق جدا، وقارن ذلك بالكادوس الذي تتوالى دِلاه (صفائحه المعدنية) باستمرار، ما دام دوران البغل او الجمل حوله.
هنا وجبت الاشارة ان إرادة الله انقذت البلدة من مصيبة كبيرة، ففي ذروة الحرب العالمية الثانية قامت ايطاليا بتجنيد الكثير من الليبيين جبرا، للقتال مع قواتها في الحبشة واريتريا، عدد كبير من شباب البلدة اقتيدوا الى مدينة هون، لتسفيرهم بالطائرة الى جبهات الحرب، لكن هُزمت ايطاليا وفشلت محاولتها في تسخيرهم لمجهودها الحربي، ليعودوا الى اهلهم بترحيب واحتفال كبير.
عقد الأربعينيات في القرن العشرين شهد مجاعة كبيرة في ليبيا، ندرة في الأمطار ونفوق للحيوانات، انتشر الجوع حتى اكل الناس جذور نبات العاقول والفكريس، ومات الناس بالعشرات من الامراض المعدية، بيوت قضوا بكاملهم، حتى عجز الناس عن دفن موتاهم. روى لي احد اهل البلدة (رحمه الله) رحلته الى تونس باحثا عن عمل، فيما يشبه كثيرا ما نراه اليوم مما يسمونه الهجرة غير الشرعية، رحلة من العذاب والمغامرات، عبر الحدود مع تونس متسللا متخفيا راجلا على قدميه حتى وصل الى عاصمتها، حيث عمل في حفر خطوط الكهرباء والماء كما يفعل الافارقة في ليبيا الان.
اعود الى الكادوس، والماء الذي يسقي الجداول، المزروعة بالقضب او القافولي او القمح والشعير، مقرونة بجداول تعد لما يسمونه فّلاحة، اي الخضروات كالبصل والطماطم والباميا واللوبية او الفول. يبدا نهار العمل مع اذان الفجر، فما ان تنتهي الصلاة في الجامع حتى يتوجه الناس الى السواني.
نقلا عن صفحة الكاتب على الفيسبوك