حول سياسة تصحيح وتوحيد سعر الصرف
محمد أبو سنينة
حول سياسة تصحيح وتوحيد سعر صرف الدينار الليبي التي طبقت خلال الفترة: 1999-2002 .
سألني أكثر من صديق ومتابع ومهتم عن الإجراءات التي اتخذها مصرف ليبيا المركزي لتصحيح سعر صرف الدينار الليبي والقضاء على السوق السوداء للنقد الأجنبي فى أواخر التسعينيات من القرن الماضي (القرن العشرين)، وتحديداً ما عرف بسياسة سعر الصرف الخاص المعلن.
وباعتبار أني كنت أحد المسؤولين في المصرف المركزي في ذلك الوقت وتوليت مهمة وضع الإطار التنفيدي لتلك السياسة التي أقرها مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي مع فريق من مديري الإدارات في المصرف، وإعداد المنشورات المنفذة لها ومتابعة تنفيذها، فإنني، وأمام إلحاح الكثيرين، ولعدم إدراك البعض لتفاصيل تلك السياسة ومتطلبات نجاحها، والمدة الزمنية التي استغرقتها الإجراءات المتبعة، ولتحقيق الاستفادة العلمية والبحثية للمهتمين والدارسين للاقتصاد الليبي من جهة، والمقارنة والمفاضلة بينها وبين السياسات الإصلاحية المطروحة مؤخراً من جهة أخرى، سأقوم بعرض تفاصيل تلك السياسة والمراحل التي مرت بها والأسس التي اعتمد عليها مصرف ليبيا المركزي في ذلك الوقت في إقرار تلك السياسة وتنفيذها، والتحديات التي واجهتها، والتي لم يكن هناك خيار آخر يتبعه المصرف المركزي لمعالجة المشكلة في ظل التشريعات النافذة في ذلك الوقت. علما بأن تلك السياسة قد صممت ونفذت دون تنسيق أو دعم من صندوق النقد الدولي أو أي جهة أخرى، حيث لم تكن ليبيا فى ذلك الوقت قد وقعت على المادة الثامنة من اتفاقية صندوق النقد الدولي التي تمنع الدول الأعضاء في الصندوق من ازدواجية أسعار الصرف أو تعددها وفرض القيود على التحويلات المتعلقة بمعاملات الحساب الجاري بميزان المدفوعات، تلك الاتفاقية الَتِي وقع عليها مصرف ليبيا المركزي لاحقا، ممثلا للدولة الليبية، في شهر يونيو 2003، وصار ملزما بمراعاتها في ما بعد.
وقد نجحت تلك السياسة فى تحقيق أهدافها المتمثّلة فى استقرار سعر صرف الدينار الليبيى والمحافظة على قيمته، والقضاء على السوق السوداء، مدعومة في ذلك بالتحسن الذي طرأ على أسعار النفط لاحقاً وزيادة موارد النقد الأجنبي لدى مصرف ليبيا المركزي على مدى الخمس عشرة سنة اللاحقة وحتى اندلاع أزمة الهلال النفطي خلال الفترة 2013- 2014 وما تلاها .
وللتاريخ، وللنظر في إمكانية الاستفادة من هذه التجربة، أو المفاضلة بينها وبين بدائل السياسات الأخرى المطروحة هذه الأيام، نستعرض تفاصيل هذه السياسة لتصحيح بعض المفاهيم حولها، ولوضعها في سياقها الصحيح، إذ كانت تجربة غير مسبوقة تختلف عن التجارب التي اتبعتها دول أخرى لمعالجة موضوع سعر الصرف، إذ ثمّة دولٌ غيّرت نظام الصرف ودول خفّضت سعر الصرف مرة واحدة، وأخرى عوّمت عملتَها، بينما دول أخرى اتبعت نظام بيع النقد الأجنبي بالمزاد، ودول فرضت رسوما على مبيعات النقد الأجنبي، وهناك أيضا دول لم تلجأ إلى سياسة المساس بسعر الصرف وأبقت ترتيبات نظام وسعر الصرف على ما هي عليه واتبعت سياسات نقدية ومالية أخرى عالجت من خلالها مشاكلها الاقتصادية والمالية، وهذا يرجع لاختلاف معطيات اقتصادات الدول المختلفة واختلاف المشاكل التي تعاني منها.
ففي الدول التي أجرت تخفيضا لسعر صرف عملاتها، أو ما يعرف بـ devaluation كان الهدف هو تخفيض الواردات السلعية وزيادة الصادرات لمعالجة العجز فى ميزانها التجاري وميزان المدفوعات، أما الدول التى عومت عملاتها floating فكانت تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية فى المقام الأول وتنمية مدخراتها بالنقد الأجنبي وزيادة قدراتها فى مواجهة التزاماتها وديونها الخارجية. أما الدول التي فرضت رسوماً على بيع النقد الأجنبي فكانت تهدف إلى القضاء على المضاربات في سوق النقد الأجنبي واستبعاد المضاربين الذين يستفيدون من الفرق بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف فى السوق السوداء، وتضييق الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق الموازية، أي تحييد هؤلاء المضاربين من السوق .
وفي تقديرنا لا تعتبر سياسة فرض رسوم على بيع النقد الأجنبي مرادفة لما يعرف بسياسة سعر الصرف المرن أو ما يعرف بسعر الصرف الزاحف crawling big،وليست مرادفة أو بديلة لتطبيق سياسة سعر الصرف الخاص المعلن، نظرا لأن الرسم الذي يفرض على مبيعات النقد الأجنبي تحدده الحكومة وتستفيد مباشرة من الإيرادات الناتجة عنه، بينما في حال تطبيق سياسة سعر الصرف الخاص المعلن فإن مجلس إدارة المصرف المركزي هي التى تحدد السعر وتغيّره من وقت لآخر، ولا تستفيد الحكومة من الدخل المتأتي منه إلا من خلال حصتها في الأرباح التى يحققها المصرف المركزي، أو بعد أن يستقر سعر الصرف ويصل إلى السعر التوازني المستهدف عندها تقوم كل إيرادات الحكومة المتأتية بالنقد الأجنبي وفقا لسعر الصرف النهائي الجديد، كما تستفيد من ناتج أو صافي إعادة تقييم أصول وخصوم المصرف المركزي المقومة بالنقد الأجنبي.
أما الموردين للسلع من الخارج فإن مصلحتهم تكمن في توسع نشاط الاستيراد والتحويلات إلى الخارج نتيجة لرفع القيود على المعاملات بالنقد الأجنبي المصاحب لهذه السياسة واستقرار السوق. وبطبيعة الحال لم يغفل خبراء مصرف ليبيا المركزي عن هذه السياسة، حيث تم تناولها ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي تبناه مصرف ليبيا المركزى ضمن مجموعة من البدائل الأخرى والذي تم عرضه في أكتر من مناسبة، كما تناولتها توصيات فريق الخبراء المكلف من قبل المجلس الرئاسي لوضع سياسات اقتصادية خلال العام 2017، وتمت مقارنة هذه السياسة بالسياسات البديلة الأخرى.
ونظرا لأن عرض هذا الموضوع على صفحتي يستغرق بعض الوقت ويحتاج إلى حيز مكاني كبير على الصفحة، فقد اضطر لعرضه في جزئين أو أكتر.
وسأبدأ في الجزء الأول بعرض خلفيات الموضوع .
فقد قرر مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي عام 1999 تبني سياسة غير مسبوقة، لتصحيح سعر صرف الدينار الليبي والقضاء على السوق السوداء باتباع سياسة تمكن من خلالها قيادة سعر الصرف وتوجيهه نحو السعر الذى اتفق على أنه السعر العادل لصرف الدينار الليبي، والذي استغرق إقراره والاتفاق عليه وقتا من الدراسة والتدقيق، واعتبر هو السعر الذي يصحح التشوه في سوق الصرف الأجنبي في ذلك الوقت، حيث كان هناك أربعة أسعار للصرف وهي، سعر الصرف الرسمى للدينار الليبي والذي كان في حدود 650 درهما للدولار الواحد، بالإضافة إلى ما عرف بالسعر التجاري الذي استخدمته شركة الصرافة في ذلك الوقت وسعر الصرف الخاص المعلن، وسعر الصرف في السوق الموازية، أي أن سوق الصرف الأجنبي كان أكتر تشوها مما هو عليه اليوم، باستثناء ما نشهده اليوم من ظهور سوق موازية للدينار الليبي بجانب السوق السوداء للنقد الأجنبي، وكانت الرقابة على النقد مفروضة بموجب أحكام القانون رقم (1) لسنة 1993 بشأن المصارف والنقد والائتمان الذي تم تعديله لاحقا بموجب قانون المصارف رقم (1) لسنة 2005 الذي ألغى الرقابة على النقد ووفر قدرا كبيرا من الحرية في التعامل بالنقد الأجنبي.
والجدير بالذكر أن سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي قبل البدء في تطبيق سياسة سعر الصرف الخاص المعلن -والذى كان عند دولار واحد يساوي 650 درهما-، أي أن الدينار الواحد كان يعادل 1.54 دولار تقريبا -كان يعادل حوالي 20% من سعره في السوق السوداء-، وحاليا نجد أن النسبة بين سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي وسعره في السوق الموازية هي أيضا تقدر بحوالى 20%، وهي نسبة 1.38 دينار للدولار إلى 7.0 دينار للدولار فى السوق السوداء.
وكان سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي سعرا غير توازني، وسعر الصرف الرسمي للدينار الليبي اليوم هو الآخر غير توازني ولا يعبر عن القيمة الحقيقية للدينار الليبي من منظور نظرية تعادل القوة الشرائية، وقد فقد نسبة مهمة من قيمته بسبب التضخم.
لكن المعطيات الاقتصادية والمالية الأخرى للاقتصاد الليبي في أواخر التسعينيات تختلف عن المعطيات الحالية للاقتصاد باستثناء الاعتماد على استخراج وتصدير النفط كمصدر رئيس للنقد الأجنبي، إن لم يكن الوحيد، والذي ظل السمة المميزة للاقتصاد الليبي طيلة الخمسة عقود ونصف الماضية. وهذه الاعتبارات نراها مهمة عند مناقشة الموضوع والمفاضلة بين مختلف بدائل معالجة وتصحيح سعر صرف الدينار الليبي .
والآن أبدأ في استعراض تلك التجربة بالتنويه إلى أن ليبيا كانت ولا تزال تعتمد ما يعرف بنظام سعر الصرف الثابت للنقد الأجنبي من حيث تثبيت القيمة التعادلية للدينار الليبي بوحدات حقوق السحب الخاصة من خلال سلة من العملات الأجنبية المهمة القابلة للتحويل (الدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني واليورو واليوان الصيني) وفقا لأوزان محددة لازالت سارية إلى يومنا هذا، والذي يعتبر نظاما للصرف مناسبا لدولة تعتمد على تصدير سلعة رئيسية واحدة وهي النفط الخام الذي تخضع أسعاره للتذبذب وفقا لمعطيات سوق النفط العالمية، إلا أن سعر صرف الدينار الليبي في مواجهة العملات الأجنبية المختلفة يعتبر غير مقيد ويتحرك ضمن هامش كبير حسب ما يطرأ من زيادة أو نقصان على أسعار صرف تلك العملات الأجنبية المكونة لسلة العملات المشار إليها.
ففي فترة سابقة كان سعر صرف الدولار الأمريكى يعادل 1.5 دينار، ثم انخفض إلى حوالى 1.25 دينار فى فترة لاحقة، وخلال فترة وصلت القيمة إلى 1.3 دينار و1.33 دينار و1.35 و1.373 و1.38 و 1.4 دينار، وغيرها من الأسعار الأخرى وفقا للنشرة التى تصدرها إدارة العمليات المصرفية بمصرف ليبيا المركزى، وهي ميزة لا يعيرها الكثيرون أي اهتمام في ليبيا رغم أهميتها، بالرغم من أن دولا أخرى، مثل المغرب، كافحت كثيرا قبل الوصول إلى مثل هذه المرونة واعتبرتها خطوة كبيرة في تطور نظام الصرف المطبق لديها.
والجدير بالذكر أنه قد سبق تطبيق سياسة ما عرف بسعر الصرف الخاص المعلن قيام مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي بإجراء تخفيض للقيمة التعادلية للدينار الليبي مقومة بوحدات حقوق السحب الخاصة ( devaluation) أكتر من مرة، وعلى فترات متفاوتة، خلال فترة التسعينيات، فقد كان سعر الصرف الرسمي للدولار يساوي 450 درهما، ثم أصبح السعر 650 درهما مضافا إليه ما عرف بضريبة النهر الصناعي بواقع 15% على كل دينار يتم بيعه من خلال القطاع المصرفي، وقبلها كان السعر 300 درهم للدولار أو ما عرف بسعر الصرف الرسمي التاريخي للدينار الليبي خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى. وسنعود لتفاصيل هذه التعديلات في معرض الحديث عن التجربة بشكل مفصل .
لقد رأيت أهمية عرض هذه الخلفية الفنية والتاريخية قبل الخوض في استعراض سياسة سعر الصرف الخاص المعلن، وهو ما سنتناوله في الجزء التاني من هذا الإدراج. وللحديث بقية..