حوار المسوخ
عمر أبو القاسم الككلي
كنت قد قرأت في السبعينيات “المسخ” لفرانز كافكا. وهي قصة طويلة، أو رواية قصيرة. قرأتها حينها في ترجمتها العربية الرائعة التي أنجزها منير البعلبكي عن الإنجليزية، وليس عن الألمانية، لغتها الأصلية. وأتيحت لي مؤخرا فرصة قراءتها في ترجمة إنجليزية أمريكية.
إنها عمل قصصي ذائع الصيت، لافت للانتباه، من حيث غرابة الموضوع، كما من حيث البراعة الفنية. يدفع فيه كافكا، دون سابق تنبيه، بقارئه في جو غرائبي كابوسي منذ السطر الأول:
“عندما استيقظ غريغور سامسا ذات صباح من أحلام غير مريحة وجد نفسه وقد تحول في سريره إلى حشرة هائلة”.
ورغم أنني لا أميل إلى قراءة الأعمال التي تشتط فيها الفانتازيا إلى هذا الحد، إلا أن هذا العمل شدني بقوة منذ السطر الأول.
غريغور سامسا في ريعان الشباب، يعمل بائعا متجولا لحساب شركة ما. عليه أن يلحق بالقطارات في مواعيدها ويجهد نفسه في الالتزام بمتطلبات عمله كي يحظى برضاء رؤسائه ولا يزج به إلى دنيا البطالة. فهو في حاجة ماسة للعمل ليعيل نفسه وأباه وأمه وأخته.
يبدو لي أن القصة، في أحد أبعادها، تعبير مجازي عن انسحاق أمثال غريغور سامسا تحت وطأة مجتمع رأسمالي قاس خال من الرحمة، يجرد الإنسان من كينونته وجوهره كإنسان ويمسخه.
لكنها تمثل، في بعد آخر، انسداد سبل التفاهم بين البشر أحيانا. فغريغور سامسا حين “انمسخ” حشرة غريبة حدث له ذلك دون أن يفقد ذاكرته الإنسانية وضميره الإنساني ووجدانه اللاقط. إذ ظل عارفا باللغة وواعيا باستخداماتها واستيعاب معانيها، ولم يفقد عواطفه إزاء أفراد أسرته، كما لم يفقد القدرة على استشفاف عواطفهم ومشاعرهم، من خلال ما يسمعه من كلامهم وما يلاحظه على قسمات وجوههم.
لكن المشكلة تتمثل في أنه فقد القدرة على الكلام ولم يعد بمستطاعه إصدار سوى أصوات حشرية غير ذات معنى لسامعيه، وبذا انعدمت إمكانية التعاطي المشترك والتفاهم المتبادل.
ويبدو لي أن هذا يحدث في الحياة الواقعية. فحين أخوض حوارا مع شخص ما بشأن موضوع ما، وأحس أنني أفهمه وهو لا يفهمني، يكون كما لو أنني تحولت، بالنسبة إليه، وحتى بالنسبة إلى نفسي، إلى ما يشبه حالة غريغور سامسا. أي يكون قد حولني إلى مسخ عاجز عن إفهامه والتفاهم معه. ونفس الشيء أقوم به أنا حياله في الوضع المعاكس. من الناحية العملية، عندما تنسد سبل التفاهم بين اثنين، صديقين أو زوجين، أو أي اثنين يدخلان في تعامل متبادل، يحوّل كل منهما الآخر إلى مسخ.