حلفاء روسيا قلقون من صفقتها مع أميركا
عبد الوهاب بدرخان
على نحو علني، بدأت روسيا تنخرط في مساومات مع الولايات المتحدة وإسرائيل على إخراج إيران أو الحدّ من وجودها ودورها في سورية. وعشية الكشف عن اجتماع مرتقب في القدس لمسؤولي الأمن القومي، الأميركي والروسي والإسرائيلي، أعلن المبعوث الخاص جيمس جيفري عن استئناف الاتصالات بين واشنطن وموسكو حول “مسار محتمل للمضي قدماً” نحو حلّ الأزمة السورية، ما قد ينهي “عزلة سورية” سورية الدولية في حال “الموافقة على سلسلة خطوات” من بينها وقف إطلاق النار في محافظة إدلب. ماذا يعني ذلك وما الذي يمكن تصوّره؟
من جهة تبدو مراهنة فلاديمير بوتين على بنيامين نتانياهو وقد أثمرت بإنهاء القطيعة بين واشنطن وموسكو كما بوضع ملامح “صفقة” تستحق أن يجتمع جون بولتون ونيكولاي باتروشيف ومئير بن شبات لبلورتها، فهذا يدعم الحملة الأميركية على إيران ويحاول بتّ إخراجها من سورية حتى قبل أن يبدأ أي تفاوض أميركي محتمل معها. ومن جهة أخرى ربما حانت نهاية “مسار استانا” لاستئناف العمل على “مسار جنيف” حيث يكون التأثير الغالب في حلّ الأزمة السورية للتفاهمات بين واشنطن وموسكو، اللتين تقاربت وجهات نظرهما في فترات سابقة لكن تعذّر تطبيقها بسبب حسابات بوتين وتطلّعه إلى صفقة تشمل سورية وأوكرانيا وغيرهما… وتتطلّب الصفقة تعاون روسيا ونظام بشار الأسد في إخراج إيران من سورية مقابل مساهمة أميركية في تحريك الحل السياسي بما يتناسب مع الشروط الروسية والإسرائيلية.
لعل النقطة التي يتوافق عليها الأميركيون والروس، وقد برزت منذ قمة الرئيسين في هلسنكي (أوائل تموز/ يوليو 2018)، هي أن الوجود الإيراني في سورية يشكّل خطراً على “أمن إسرائيل” وعقبةً أمام أي حلّ للأزمة، إذ تستخدم طهران الورقتين للضغط على كل الأطراف اللاعبة لتنال اعترافاً بمصالحها الإقليمية كافة. لذلك إذا كان للدولتين الكبريين أن تتعاونا جدّياً في سورية فلا بدّ لكل منهما أن تعترف بالواقع:
لم يعد في إمكان روسيا إنكار محدودية قدراتها في سورية حيال امتناع الدول كافةً عن التعاون معها، إما لأنها سعت إلى تشكيل محور عبر التمسّك بـ “تحالفها” مع إيران والعمل على إبعاد تركيا عن المعسكر الغربي، أو لأنها احجمت عن الضغط على نظام الأسد ليقبل بالتنازلات اللازمة والضرورية للحل السياسي. وطالما أن المكاسب الكبيرة التي تمنّاها بوتين ابتعدت فقد بقي أمامه أن ينال المتاح ويطوّره على قاعدة تعايش أميركا مع مصالح روسيا في سورية. تبعاً لذلك باتت موسكو مقتنعة أنها تستند إلى ورقتين محروقتين: الدور الإيراني ونظام الأسد.
في المقابل لم يعد في إمكان الولايات المتحدة أن تؤجّل استحقاق التنسيق مع روسيا، إذ تحتاج إليه في المواجهة الراهنة مع إيران وأتباعها. فبعدما فعلت ورقة العقوبات فعلها ضد إيران ودمشق حان الوقت لاستثمار انعكاساتها على النظامين وإرغامهما على تقديم تنازلات. ومن شأن إيران أن تدرك أن ورقتها السورية باتت مهتزة في يدها حتى قبل أن تتفاوض مع أميركا، ما ينسحب أيضاً على ورقتها اللبنانية التي باتت مهدّدة بتداعيات سيئة على “حزب الله”. أما في ما يخص نظام الأسد فسبق لواشنطن أن عرضت تنازلاتها للقبول ببقائه (بكفالة روسية – إسرائيلية) حتى نهاية ولايته الرئاسية لقاء تعاونه في أمرين: أولهما إخراج إيران، والثاني الموافقة على انتقال سياسي عبر دستور جديد يقلّص صلاحيات الرئيس ويعيد هيكلة الأجهزة العسكرية والأمنية ويخلق بيئة مناسبة لانتخابات حرّة ونزيهة.
فيما ترتسم معالم مصالح الأطراف كافة، باستثناء إيران، تدرك روسيا الصعوبات أكثر من سواها، فالضربات الإسرائيلية الأكثر كثافة وضراوة لا تكفي لإخراج إيران، ولذلك ستعمل موسكو للحصول على ما يمكّنها من تحقيق هذا الهدف باتفاق سياسي مع طهران. وقد أظهرت الاحتكاكات بين الروس والإيرانيين وقوات النظام (جناح ماهر الأسد) في الشهور الأخيرة أن القوات البرّية التي يعتمد عليها الروس لا تكفي أيضاً لتغيير الواقع على الأرض. كما أن تقلّبات روسيا بإشراك الإيرانيين في معارك إدلب ومحيطها أو استبعادهم عنها جعلتهم يركّزون حشد مقاتليهم بالقرب من الحدود السورية – العراقية ومناطق في الجنوب قريبة من الجولان. إلى ذلك، لا تجهل موسكو أن لدى الإيرانيين خططاً مضادة لأي ضغوط ترمي إلى اقتلاع وجودهم العسكري، وإذا اقتضى الأمر فإنهم لن يتوانوا عن توظيف ميليشياتهم في “مقاومة الاحتلال الروسي”. لذلك تحتاج موسكو إلى تعاون من نظام الأسد يبدأ أولاً بطلب رسمي بانسحاب الإيرانيين، ولأجل ذلك لا بدّ أن يرتضي النظام بالشروط وبـ “الضمانات” المتاحة كي يحصل على وصفه جيمس جيفري بـ “إنهاء عزلة سورية الدولية”، وهي عبارة مطاطة قد تشمل أولاً تخفيف تقنين الوقود والمواد الأساسية الذي تعانيه مناطق سيطرة النظام وإتاحة نسبة معينة من “التطبيع” تتناسب مع تجاوب النظام وتعاونه.
يلاحظ في هذا السياق أن تركيا تبدو كأنها محيّدة. هناك تفسيران، أولهما أن أميركا وروسيا تريدان لها دوراً في شمال سورية وإنْ لم توافقا تماماً على طموحات أنقرة. والآخر أنهما تأخذان التقارب الحالي بين تركيا وإيران في الاعتبار وربما تجده واشنطن مفيداً في المرحلة الحالية لتمنح طهران متنفساً من العقوبات، لكن إذا استخدم الإيرانيون هذا التقارب لمواصلة مغامراتهم فيمكن عندئذ الضغط على أنقرة لإعادة النظر فيه. وتبدو إشارة المبعوث الأميركي الخاص إلى وقف اطلاق النار في إدلب كـ “بداية” للتفاهمات الجديدة مع موسكو وكأنها تدعم الدور التركي في إدلب خصوصاً أن المعارك الأخيرة عبّرت عن استياء روسي مزدوج: أولاً من تقدّم التنسيق الأميركي – التركي في شأن “منطقة آمنة” في الشمال الشرقي، وثانياً من التلكؤ التركي في تنفيذ اتفاق سوتشي في شأن إدلب، إذ تعتبره موسكو عرقلة لخططها سواء لتفعيل مسار الحل السياسي أم لتأمين السيطرة على طريق اللاذقية – حلب مروراً بإدلب وكذلك لوقف الهجمات بالطائرات المسيّرة على قاعدة حميميم.
أسابيع مضت على التصعيد الروسي في إدلب وريف حماة الشمالي، من دون أي “انجاز” آخر غير قتل المدنيين وتدمير المرافق الحيوية لبقائهم في آخر ملاذ لهم في الشمال الغربي السوري. كان الرئيس الروسي قال أن الوقت غير مناسب لعملية عسكرية واسعة لتجنيب المدنيين المخاطر، وبعد أيام أمر بعمليات جزئية ومحدودة كان المدنيون ولا يزالون ضحاياها. وفي العام الرابع لتدخلها في سورية، لم تغيّر موسكو تقليدها إذ تقول أنها تضرب الإرهابيين لكن أولوية استهدافات مقاتلاتها تركز على المناطق السكنية وأسواقها ومستشفياتها ومدارسها ومخابزها فضلاً عن مواقع فصائل المعارضة، وكالعادة تتجنّب مواقع الفصائل المصنّفة دولياً كـ “إرهابية”. أما لماذا هو تصعيد روسي أولاً وأخيراً فلأنه يختلف عن الحملات السابقة بعدم تنسيقه الوثيق مع قيادة النظام وقصر اعتماده على الفيلق الخامس الذي أسسه الروس وعهدوا بقيادته إلى العميد سهيل حسن الملقّب بـ “النمر”. وكان لافتاً في مواكبة أوساط النظام وجمهوره وطائفته للقتال أن هذا الفيلق لم يعد تابعاً للنظام بل لقاعدة حميميم، وأن الغضب على “النمر” والروس بلغ مستوى غير مسبوق.
ما كشفته المعارك لم يكن تلكؤاً تركياً فحسب، بل تصميماً على إفشال التصعيد الروسي، بدليل أن أسلحة نوعية ظهرت في تصدّي قوات “الجبهة الوطنية للتحرير” (الجيش الحرّ) لهجمات قوات “النمر”، بعدما أجاز الأميركيون تمريرها إلى المعارضة، ومنها صواريخ “تاو” وطائرات مسيّرة ومدفعية بعيدة المدى يستخدمها الجيش التركي. هذا المعطى جعل خبراء عسكريين يقدّرون أن العلاقة الروسية – التركية تمرّ بفترة حرجة للغاية، على رغم محافظة الطرفين على تخاطب ديبلوماسي هادئ. ويعتقد الخبراء أن واشنطن حسمت مرحلياً حاجتها إلى الأتراك في شمال شرقي سورية، ولذا عاودت اجتذاب أنقرة إلى معسكرها مع استمرار الخلاف على تسليمها طائرات “إف 35” إذا مضت قدماً في صفقة صواريخ “اس 400” الروسية.
المؤكّد أن حلفاء روسيا في سورية، خصوصاً النظام وإيران، يشعرون بأن الاجتماع الثلاثي في القدس سيبدّل الكثير من المعطيات التي يتحرّكون الآن في ظلّها، كما أنه سيضطرّهم إلى تغيير حساباتهم. كيف سيتعاملون مع روسيا وصفقتها مع أميركا وإسرائيل؟ هذه مسألة أخرى، ولا شك أن تهوّر أي طرف يغرقه.