حكاية مدينة هولندية
رزان المغربي
كنت أجهز حقيبتي في اليوم الثالث لزيارتي لمدينة امستردام، وأنوي الانطلاق باتجاه محطة القطارات المركزية المقابلة للفندق، في الأثناء هاتفني صديق ليبي يقيم في امستردام منذ عشرين عاماً، ودعاني لتأجيل السفر لساعات فقط ، ووجه لي دعوة قائلاً: أريد التكفير عن ذنوبي السابقة وتقصيري، لأنك جئت مدينتي ولم أقم بالواجب، ولدي لك مفاجأة حلوة ، وهي رحلة للريف الهولندي وتحديداً مدينة الفنانين!
حينما استمعت لكلمة فن وفنانين، وقعت في قلبي موقعاً لا يمكن معها الاعتذار والرفض، ولبّيت الدعوة على أمل اكتشاف مدينة صغيرة، تدعى فولندام وتبعد عن شرق العاصمة أمستردام حوالي 30 كيلومتراً فقط.
قبل وقت طويل وصلت لما اعتبرته حكمة شخصية، تقول: إذا وصلتك دعوة للسير في طريق جديدة، امشي معها، ودعي كل شيء يتدفق حولك لا تقاوميه، استفيدي من لحظات الزخم، التي تدفعك نحو مسارات لم تعرفيها من قبل، حتى لو بدت لك المسافات طويلة، يمكنك الغناء والتظاهر بالفرح بعد حين سيصبح كل شيء حقيقي.
السير نحو الهدف بحد ذاته متعة، وهذه التعويذة-مشاعر الفرح- كفيلة بجعل كل خطوة تيارا متدفقا يغذي المثابرة والوصول!وهذا ما حدث أثناء السير في طرقات فرعية، تحفها الأشجار الخضراء والقنوات المائية، ثم فجأة ينفتح الفضاء على سهول ومروج ترعى فيها الأبقار الهولندية الشهيرة أو خيول تقف قريباً من البيوت المنتشرة في هذه المزارع الخاصة.
وصلنا المدينة وتم ركن السيارة في ساحتها قريباً من مركز تسوق، وأثار اهتمامي بأن الطريق التي بدأنا نسير عليها لنصل الكورنيش مرتفعة قليلاً ، كنا نمشي صاعدين إلى أعلى، والأمر الغريب لمن لايعرف هولندا، هي بلد منخفضة تحت سطح البحر، من النادر وجود هضاب أو طرقات مرتفعة. و ينتهي الشارع الصاعد في مدينة ,Volendam – عند بداية الكورنيش الممتد على ضفاف بحر الشمال ومن هنا تبدأ الأساطير والحكايات.
كان تمثال السيدة الحرجانة (الزعلانة) من زوجها أول شيء أقابله، ينتصب جسدها الممتلئ جانب السور الحجري مرتدية الزي الهولندي التقليدي، وعلى رأسها قبعة مثلثة الشكل، تمتد يدها وكأنها بانتظار شيء ما، حركة كفها المقوس فوق السور تنبئ عن هذا . وقفت في محاولة لمواساتها أربت على يدها مرة ، وابتسم لها مرة أخرى لاستدراجها في الكلام، علني أفهم سر المشكلة، لكنها أصرت على الصمت، ومضيت في طريقي متجهة إلى زوجها، وقد احتل طرف كرسي طويل وهو يعطي بظهره للبحر، تبدو على ملامحه التفكير العميق، هنا فهمت سر وقوف زوجته الجانبي حتى تتمكن من رؤيته عن كثب، ومراقبة من يجلس إلى جواره على المقعد .
تصطف قريبا منه عربات الأسماك، التي تقدم أطباقاً شهية من الأسماك المقلية، على طول الجهة المقابلة للشارع محلات الهدايا والتذكارات، وفي خلفيتها تبرز البيوت الملونة المبنية على طراز الأكواخ بأسقف مثلثة ونوافذ كثيرة، وتتدلى من شرفاتها أزهار الجورنيوم الحمراء .
رائحة السمك الشهي تسحبك عنوة لطلب طبق صغير منها ، وبينما يتم تحضير طلبك لا يمكن أن تضيع منك بهجة الوجود في هذا الشارع يحده الشاطئ شمالاً والمحلات والبيوت وتلك الأزقة المنحدرة صوب المدينة يميناً ، التقطت بضع صور لتخليد اللحظة، وتناولت طبقي، وذهبت إلى مقعد الزوج الحزين علني أهدئ النفوس المضطربة، كانت نظرته ساهمة لكنه منكفئ ويديه متصالبتان في حجره، ولسان حاله يقول: النساء صعب الوصول إلى طريقة تفكيرهن وسيأتي يوم وترضى زوجتي!
انتهيت من التهام قطع الأسماك الشهية، قبل أن أنتبه إلى طيور زرقاء تتنقل بخفة قريبا من المقاعد، تنقر ما يرمى لها من فتات، متأخرةً انتبهت لوجودها، سرقتني فكرة مصالحة الأزواج عنها، رميت لها آخر قطعة ونهضت مخاطبة الرجل: ليس عليك أن تفهم سر النساء وطريقة تفكيرهن، لأن النساء تشبه الأزهار بجمالها وعطرها، والزهر لا يسأل عن سره!
كان طريق الكورنيش طويلاً يمتد لأكثر من عشرة كيلومترات، والوقت لا يسعفنا تماماً، اختار رفيق الرحلة أهم ما يميزه ، ومنه مصنع أجبان هولندية صغير، يدخل إليه الزوار يشاهدون في الدور الأول معرض عبارة عن أرفف وضعت عليها قطع الجبن بمختلف أنواعها ولا ننسى أطباق الضيافة، وهذا تقليد هولندي في مختلف محلات بيع الأجبان تقدم قطع جبنة للزوار لتذوقها قبل شرائها ، في الطابق الأرضي يوجد المصنع ورجل يقوم بشرح كيفية طريقة التصنيع .
الزيارة الثانية كانت لأشهر محل تصوير لزوار المدينة، والجديد في الأمر أنه يحتوي على الملابس الهولندية التقليدية، وفيه رجال ونساء للمساعدة في ارتداء الزي ، ومن ثم التقاط الصور
مدينة لها طابع فني خاص، تزدهر فيها المشغولات اليدوية وصناعة الخزف التقليدي المزين بنقوش زرقاء وهو الطابع الهولندي المشهور، كما يوجد فيها مصنع مصغر للنسيج وطريقة قديمة لغزل الصوف ومن ثم تحويله إلى كرات جاهزة لتوضع على النول الخشبي.
المدينة فيها كنيسة قديمة وتستحق الفرجة، بما تحتويه من أيقونات وتماثيل رخامية غاية في الدقة والجمال، وأثناء تجوالنا وسيرنا نحوها، مررنا ببيوت تحدها قنوات مائية لكنها أمام مجموعة بيوت تتسع لتصبح بحيرة صغيرة تسبح فيها أسراب البط والبجع، أثناء مرورنا خرجت فتاة من شرفتها المطلة على البحيرة الصغيرة وأخذت تلقي لهم بفتات الخبز، توقفنا لرؤية المشهد، كان جماله آسراً وكأننا داخل فلم في كادر فيلم سينمائي بديع .
في طريق العودة، انتبهت إلى عدة منحوتات برونزية رائعة أحدها لرجلين يجران عربة عليها كرات الجبن، ثم تمثال بائع الأسماك ، وآخر تمثال ضخم توقفت عنده كان لسيدة ممتلئة تحتضن زجاجة نبيذ، ويبدو عليها الثمل وتنظر باتجاه البحر، في الواقع هي لا تبعد عن الزوجة والزوج المتخاصمين كثيراً، تأملتها وسرح خيالي في رسم إضافة لقصة الخصام بين الزوجين ، هل تكون هذه السيدة الثملة هي السبب؟
رفيق الرحلة نبهني بأن معرفة الأسباب تتطلب بحثاً مضنياً، فعلاقات الحب وما يتلوها هي من ألهمت فناني هذه المدينة لنحت التماثيل لتبعث التساؤل والدهشة في نفس زوارها، لتلهم كل مشاهد حكايته الخاصة.