حرية العقيدة والعيد والأجداد المؤسسون
سالم العوكلي
تطرقت في مقالة سابقة (شرطة لمكافحة الحب) إلى عبثية تخصيص جهاز قبض قضائي للآداب، لأنه من ناحية، يهين المجتمع الذي حافظ على آدابه وأخلاقه لقرون قبل حتى أن يؤسس دولة، وكان العرف المتغير في حالة جدل مع الواقع يسن قوانينه الشفهية التي تراعي إدارة العلاقات والمصالح والقيم الاجتماعية وفق ما تعلمه التجربة، ولأنه، من ناحية أخرى، الآداب كمصطلح أو مفهوم سيظل غامضا ونسبيا ويختلف من تجمع سكاني إلى آخر كما يتغير بتغير الظروف.
أذكر أن في أخلاقية المجتمع الليبي كان من العيب أن تفتح المراة دكانا أو تعمل في متجر مع الزبائن، لكن مع الظروف التي مر بها المجتمع، وتدني مستوى الدخل في بداية عقد الثمانيات، وانكماش سوق العمل التي احتكرها القطاع العام، بدأت ظاهرة عمل الفتيات بالآلاف في الأسواق الشعبية العامة دون أن تثير المشاعر السلبية التي كانت سائدة قبلها بفترة قصيرة تجاه هذه المهنة للإناث. والأمثلة كثيرة.
وأنا أطالع كتاب المفوض أدريان بيلت (استقلال ليبيا والأمم المتحدة: حالة تفكيك منهج للاستعمار) صادفني هذا الجزء المهم المنقول عن محاضر اجتماعات لجنة الستين في نقاشها للدستور مادةً مادةً. وفي المادة المتعلقة بحرية الاعتقاد التي نصها “حرية العقيدة مطلقة. وتحترم الدولة جميع الأديان والمعتقدات، وتكفل لليبيين وللأجانب المقيمين في أراضيها حرية العقيدة والقيام بشعائر الأديان، على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب”
“تساءل العضو منير برشان عن كيف يمكن فهم الجملة “ولا ينافي الآداب” هل سيحددها القانون؟ إذا كان الأمر كذلك يجب أن نضيف عبارة بهذا المعنى.
وقال العضو المحترم خليل القلال أنه من المفهوم أن النظام والآداب العامة أمور معترف بها وتقاليد فعالة، وأنها تقع ضمن سلطة الدولة.
ولكن العضو المحترم علي تامر لاحظ أن الآداب العامة هي نظام أخلاقي يتطابق بشكل عام في العالم ومعترف به عموما بين الجنس البشري. وقال أن هناك تقاليد خاصة تلتزم بها مدينة وليس أخرى، وهي التي يجب أن يحافظ عليها القانون.
وكرر العضو المحترم منير برشان اقتراحه بأن تضاف الجملة (وفقا لأحكام القانون) إلى المادة.
واعترض العضو المحترم خليل القلال على ذلك، وقال إنه ليس من الممكن صياغة قانون يحدد الآداب والنظام العام لأن نظام الدولة بمجمله هو القانون النافذ.
ونهض العضو المحترم عبدالمجيد الكعبار وقال إن المادة تبدو سليمة وأنه يأمل أن يوافق عليها الأعضاء. وبالفعل توصل الأعضاء إلى اتفاق بشأنها دون مزيد من التغيير.”.
حديث الأعضاء المذكورين عن القانون بهذه الدراية يدخل في باب فلسفة القانون التي غابت عن هيئتنا الموقرة التي صاغت مشروع دستور لا يرقى لهذا الدستور؛ الذي كتب قبل نصف قرن، من نواحٍ عدة. فالقول بأن مسألة الأخلاق والآداب شأن عالمي ينطبق على الجنس البشري، يقوض الوهم النرجسي الذي مازال يداعب الكثيرين عندنا بكوننا نحن فقط من يتمسك بالأخلاق والآداب، والقول بأن نظام الدولة بمجمله هو القانون النافذ يقوض الفكرة السخيفة بإنشاء جهاز شُرَطي للآداب عمله أن يكون وصيا على أخلاق المجتمع ومراقبا لخصوصياته، إضافة إلى الإشارة الحاذقة فيما يخص نسبية المسألة التي تختلف من مدينة إلى مدينة. فمثلا من الدارج أن يرتدي الشبان في بعض المدن بناطيل قصيرة أو أن لا ترتدي بعض الفتيات غطاء على الرأس، بينما في مدن أخرى مستهجن وغير وارد وفق التقاليد الاجتماعية وليس وفق قانون أو شرطة تخصص لها ميزانية وبنية تحتية من خزينة الدولة. وإذا كان الجنس البشري متفق على الخطوط العريضة لآداب التواجد في أماكن عامة فإن تفاوتها النسبي خاضع لتقاليد اجتماعية أكثر منها دينية.
لم تكن لجنة الستين تقريبا تشمل أي شخص متحصل على شهادة جامعية في ذلك الوقت، غير أن النقاشات التي أطلعت عليها في الكتاب حول الدستور كانت عميقة وثرية وبعيدة النظر، والأهم من ذلك ما تتميز به من تفتح ومرونة لدى معظم الأعضاء تجاه قضايا خلافية مثل الهجرة والجنسية والعقيدة ، رغم ما تخلل هذا النقاش من اختلافات وخلافات إقليمية حادة حين يتعلق النقاش بشكل الدولة الفيدرالي أو بصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، أو عاصمة الدولة، أو إيرادات الجمارك والضرائب، لكن وجهات النظر كانت كلها محترمة، وتحوز ما يؤسس لها من إطار نظري وعملي وحجج قابلة للنقاش حتى يومنا هذا. والأهم من ذلك لم يحدث أي عنف لفظي أو جسدي داخل الاجتماعات رغم حساسية المواضيع المطروحة، وغالبا ما يصل الجميع إلى حل وسط عبر تقديم تنازلات متبادلة. ومن الواضح أن الحرص على بناء الدولة ،وصياغة قاعدة دستورية لها، بقدر ما تحاول التخفيف من مخاوف المركزية تعزز مسارها نحو الوحدة، كان هو المشترك الذي جعل آليات العمل تمضي قدما.
ومن المواقف التي تعكس هذا الحرص على المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقهم، يذكر الكتاب حكاية شيقة سأوردها حرفيا كما وردت في كتاب بيلت، الصفحة 1118: “في وقت سابق كان هناك بعض النقاش حول أخذ عطلة خلال أيام عيد الأضحية الإسلامي، بدءاً من 9 سبتمبر وتستمر لمدة أربعة أيام، والتي كان أعضاء الوفد الفزاني يودون الاحتفال بها في منازلهم مع عائلاتهم. ولكن رفضت الجمعية اقتراحا بهذا المعنى. مع ذلك، وبعد أن وجه خليل القلال، رئيس مجموعة العمل، النداء المؤثر التالي إلى زملائه استقبلوه بحماس: أطلب من زملائي شيئا من التضحية وبذل كل جهد ممكن، حتى نتمكن من إنهاء الدستور في أسرع وقت ممكن؛ أعلى الدوافع تدفعنا للقيام بذلك …
إنني أعارض المقترح، حيث إن الخير العام يطالبنا جميعا بالعمل عليه بدون توقف. لقد قبلنا مسؤولية وضع دستور، ويجب أن نكمل المهمة. يجب ألا نولي أي اهتمام لاعتبارات أخرى. سيكون عيدنا هو اليوم الذي ننهي فيه مهمتنا ونخرج دستورنا إلى الوجود. على أولئك الذين يتوقون لعائلاتهم أن يتخيلوا أنهم في رحلة عمل، عندما يمضون الأعياد بعيدا عن عائلاتهم دون أن يمنعهم ذلك من تنفيذ مشاريعهم التجارية. إلى أي مدى ينبغي أن يكونوا مستعدين لتكريس أنفسهم لدستور أمة بأكملها، والذي ستبنى عليها حياة الأمة، وحياة الأجيال القادمة”.
في بيان المثقفين والأكاديميين والفنانين وناشطي المجتمع المدني الذي توجهنا به إلى ملتقى الحوار الليبي المنعقد وقتها في تونس، طلبنا منهم أن يقتدوا بما فعل الأجداد المؤسسين، وفي التعليقات تساءل البعض، بجدية أحيانا أو بسخرية، عما فعل هؤلاء الأجداد، وهذه جزء ضئيل من الكثير الذي يجيب عن هذا السؤال. لكن أمنيتنا أو مطلبنا ذهب أدراج الرياح حين سرب موظفون في الأمم المتحدة أخبار بيع الأصوات لبعض الأعضاء الفاسدين في الملتقى حيث تمنينا على الأقل أن تأتي هذه الأخبار من مصدر ليبي مشارك في الملتقى.
أشكر الصديق العزيز د. زاهي المغيربي على عمله العظيم في ترجمة هذا المجلد الهام جدا، والذي حين قررت أن أضع خطا تحت الأسطر الهامة منه وجدت نفسي سأضع خطا طويلا تحت كل سطور الكتاب.