تمكين أممى للإسلام السياسى فى ليبيا
محمد أبوالفضل
الأمم المتحدة من طبيعة مهامها العمل على حل النزاعات وتسوية الصراعات في الدول المختلفة، لكن دورها في ليبيا يبدو عكس ذلك، فقد أدت السياسات الخاطئة لمبعوثها غسان سلامة إلى تكريس الأزمة بدلا من حلها. وعلى مدى أكثر من عامين على بدء مهمته والبلاد تسير إلى الخلف، حيث تؤدي التحركات التي يقوم بها إلى مزيد من تمكين تيار الإسلام السياسي. لم يتعامل المبعوث الأممي مع الانتهاكات التركية الصارخة كما يجب وبضمير يراعي الأرواح التي أهدرت بسبب دخول الأسلحة المحرمة، واكتفى بتغريدة على تويتر وعد فيها بالتحقيق في ملف السفينة التركية التي ضبطت في ميناء الحُمس الأسبوع الماضي، بينما تحاول الحكومة الليبية برئاسة فايز السراج تعويمه من خلال تكوين لجنة يشارك فيها الجاني، أي تركيا، لتحديد مصيره، كأن العالم ينتظر أن تدين أنقرة نفسها؟ التجاهل الأممي والصمت الغربي أصبحا من مكونات إدارة الأزمة في ليبيا، فالحديث عن إعادة توزيع الثروة بصورة عادلة اختفى تقريبا، وتغيير محافظ البنك المركزي الصديق الكبير طواه النسيان، لأن غالبية القوى السياسية لا تريد فتح ملفات يمكن أن ترتد أوراقها السوداء عليها. لذلك لا يتوقع كثيرون أن يفضي ما يسمى المؤتمر الجامع الذي دعا سلامة لعقده في الأسابيع الأولى من يناير المقبل، إلى نتائج ملموسة لتخفيف حدة الأزمة وفتح نافذة إيجابية لتجاوز العقبات الرئيسية، فالتحضيرات الجارية تسير على وتيرة تخدم أجندات قوى محدودة لها مآرب خفية في انعقاد المؤتمر. يبدو الغموض الذي يلف المؤتمر كثيفا ومقصودا، فلم يتم حتى الآن تحديد الأسماء والجهات التي ستحضره، وأين ومتى سيعقد بالضبط، وما هي مخرجاته السياسية المطلوبة؟ وهل تملك الأمم المتحدة قدرة على التعامل بحيادية مع جميع الأطراف، كي تتمكن من تطبيق النتائج على أرض الواقع؟
كل ما رشح من معلومات يشير إلى حرص بالغ من قبل منظمي الملتقى على وجود أطياف قوية من التيار المؤدلج، مع رموز من النظام السابق، أكل عليها الدهر وشرب، وتلهث وراء وهم العودة إلى السلطة عبر بوابة الإسلام السياسي، ما يحول المؤتمر إلى منتدى يتبارى فيه الحاضرون بالكلمات للحفاظ على مصالحهم، بما يوحي أن هناك خطوة كبيرة أنجزتها الأمم المتحدة، قد تعوض سلسلة الفشل الذي منيت به طوال الفترة الماضية في ليبيا. الخبرة التي تراكمت في جعبة غسان سلامة على مدى عامين لم تنعكس على تصرفاته، لأن الإجراءات التي يتم تطبيقها سلبية ولا تراعي جيدا أهمية الحفاظ على وحدة الدولة الليبية، بالتالي من الصعوبة أن تحرز تقدما، فليبيا المعروف أنها تتكون من مجتمع متجانس يتم دفعها إلى حالة غريبة من عدم التجانس، ما يهدد رغبة القطاع العريض في الحفاظ على تماسكها وإبعادها عن حافة الهاوية. الإصرار على نقل نماذج فاشلة يؤكد أن البعثة الأممية لم تفهم مكونات ليبيا، فهذا البلد له خصوصية تفرض مراعاتها عند كل مقاربة ترمي إلى الحل السياسي، فلا هو ينتمي إلى المشرق العربي أو المغرب العربي، لأن شرق ليبيا يمثل نهاية المشرق، وطرابلس في الغرب تعد البوابة الرئيسية للمغرب العربي.
الدور الحيوي الذي لعبته الميليشيات في كل من العراق وليبيا، جعلت سلامة يعول عليها ويعيد تكرارها في ليبيا، من دون تفرقة بين النماذج الثلاثة، ويسعى ليمنحها مساحة كبيرة في الترتيبات الأمنية داخل طرابلس، فالقوة التي أعلن عنها أخيرا لحماية العاصمة، وتتكون من تحالف أربع ميليشيات لم تدفع البعثة الأممية للتحرك حيال رفضها أو إدانتها، بل تعمل على وضعها ضمن القوى الفاعلة في المؤتمر الجامع، بالتوازي مع تعزيز نفوذ الإسلام السياسي في المنطقة. المنهج الذي يتبعه غسان سلامة يدل على قصر نظر فاضح، في حين من الواجب أن يتحلى المبعوث الأممي برؤية شاملة، تراعي المصالح العليا للدولة التي يمارس فيها مهمته. كانت أمامه فرصة في تونس ليصل إلى نتائج محددة ويضع القوى الليبية أمام الرأي العام المحلي والعالمي، لكنه أهدر حوار تونس لتعديل اتفاق الصخيرات، وفوت الفرصة بعد الأخرى، وظل وفيا لفكرة هضم العصابات بدلا من نبذها. المؤشرات المتوافرة تؤكد أن المؤتمر الجامع سوف يخرج خالي الوفاض، فمن يعتمد على كتائب مسلحة لحفظ الأمن ويتجاهل المخاطر التي يحملها تضخم الجماعات المؤدجلة ويمهد السبل لتسللها إلى التحكم في مفاصل الملتقى الجامع، لن يستطيع تحقيق مكاسب على المدى البعيد، لكنه يهيئ الدولة لتقبل خيارات قاتمة. بعثة الأمم المتحدة تقول إنها أنجزت 77 جلسة لمنظمة الحوار الإنساني في جنيف المعروفة بـ HD، وتغض النظر عن هوية هذه المنظمة وعلاقتها بتركيا وقطر والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ومن يقف خلفه، فهي واحدة من الأدوات العاملة لمصلحة هذه الجهات، وتكريس نفوذها. الملفات والقضايا التي اشتغلت عليها بعثة الأمم المتحدة في ليبيا لم تصل إلى نتائج محددة، وتفضي إلى اتساع نطاق التعقيد، وهكذا سيكون حال الملتقى، الذي يؤدي بهذه الصورة إلى خروج جسم سياسي، أو تحالف يعيد إنتاج مشروع ليبيا الغد، الذي طرح عام 2008 بواسطة سيف الإسلام القذافي، وهو ورقة تحظى بجاذبية لدى بعض القوى الغربية. وربما تكون واحدة من الصفقات التي يتم إلقاؤها قريبا في المشهد الليبي، على أمل أن تضرب مجموعة من العصافير بحجر واحد لدى من أبدوا قلقا من احتمال وصول جماعة الإخوان للسلطة، أو من تحفظوا على الأسماء الجديدة المرشحة للصعود السياسي. من الخطأ التعامل مع الأزمة الليبية بتصورات ماضوية ثبت فشلها، لأن الزمن لن يعود إلى الوراء، ومشروع سيف القذافي كان مرتبطا بتمرير عملية توريثه السلطة، ومن يحاولون استدعاء هذه التركيبة لتجاوز بعض المطبات السياسية سيجدون أنفسهم أمام تحديات من نوع جديد، تبعدهم عن السلطة ولن تقربهم منها. تمكين الجماعات المؤدلجة وتصدرها للحكم بدأ يأخذ طرقا مختلفة، ويتم من خلال التنسيق مع أجسام سياسية قائمة ومؤثرة في صناعة القرار الرسمي، لكن هؤلاء لم ينتبهوا إلى أن تشجيعهم علنا أو من وراء ستار ينهي فرص استمرارهم في الحكومة تماما. على البعثة الأممية الوقوف على مسافة واحدة من القوى الليبية، وتراعي أن دورها تقديم الخطط التي تساعد على الحل، لأن المضي في سيناريو المؤتمر الجامع بهذه الطريقة، لن يمكن بسهولة الإسلام السياسي احتكار السلطة في ظل وجود جماعات حية في ليبيا، لكنه قد يدخل البلاد نفقا من الصعوبة إيجاد نهاية واضحة لها.