تعليق على بوح عبد الجليل
سالم العوكلي
عندما يبدي أي أحد ضيقه مما يحدث الآن ويطرح سؤاله الحارق عن مصيرنا منتظرا إجابة تنقذه من اليأس، عادة لا أجد إلا عبارة أكررها دائما وهي، أن تقرأ التاريخ شيء وأن تعيشه شيء آخر. وهي عبارة غائمة إلى حد كبير استخدمها في المواساة مثل تلك العبارات اللاشعورية التي نكررها في المآتم متغاضين عن مدى صلاحيتها منطقيا، كأن تقول لصاحب المصاب : إن شاء الله حد الباس. أو اللهم اجعلها خاتمة الأحزان. ونحن ندرك جيدا في قرارة أنفسنا إن حادثة الموت هذه لن تكون الأخيرة، ولا هذا الحزن هو فعلا آخر الأحزان وخاتمها.
ولكن العبارة المتعلقة بالتاريخ قابلة للتأويل والفهم ووضعها في اختبار منطقي، فنحن قرأنا في التاريخ عن أحداث كبيرة ومأساوية ومن ضمنها الثورات الكبيرة في التاريخ، قرأناها برومانتيكية حالمة، وأحيانا بمتعة، وأحياناً على مضض حين تكون ضرورية للإجابة عن سؤال في امتحان مادة التاريخ، لكن هذا الحدث الذي قرأناه في سطر أو صفحة بحياد ثمة أشخاص عاشوه بالدقيقة، وتألموا أثناءه، أو ماتوا، أو قاسوا الجوع والتشرد وألم الانتظار الصعب، مثلما يحدث الآن لنا ونحن نعيش هذه المرحلة يوما بيوم، بل ساعة بساعة، وسيأتي جيل يقرأ هذه المرحلة في عنوان أو سطر أو صفحات في كتاب التاريخ مثلما نسمع أو نقرأ عن معتقلات الفاشية التي عاشها آباؤنا، نقرأها بحياد وكأنها إحدى نزهات التاريخ أو شطحاته.
فهل ثمة وعي بالتاريخ لدى من يجدون أنفسهم جزءا من حركته في مرحلة ما، حرب كانت أم ثورة؟.
كتبت مرة في مقالة عن السيد مصطفى عبد الجليل أنه كان إبان النظام السابق، وكأحد القضاة النزيهين والجريئين، يوزع علينا نسخا من أحكامه القضائية الشجاعة مدركا أن للكاتب أرشيف وأنه أحد المؤتمنين على التاريخ حسب ما يفترض، وفسرتُ حينها هذه الرغبة في التوثيق بكون هذا القاضي يتمتع بوعي بالتاريخ وهو يدرك أن كل ما يفعله في هذا التوقيت الصعب سيكون جزءا من تاريخه الشخصي وتاريخ المرحلة. ولكن هل استمر هذا الوعي لديه حين وجد نفسه فجأة أحد صناع هذا التاريخ كرئيس لأول هيكل سياسي يقود ثاني تمرد مسلح في ليبيا ضد الفاشية؟ .
وينطبق هذا السؤال على كل من تصدوا للمشهد إبان الحراك وبعد سقوط النظام وحتى الآن، أولئك الذين كنا نُذكّرهم بمواقف مؤسسي ليبيا بعد زوال الفاشية الأولى والذين أصبحوا هم وأفعالهم في ذمة التاريخ، ثمة من دخله من أوسع أبوابه بنزاهته ومواقفه الوطنية، وثمة من دخله مع أضيق أبوابه بمواقفه المخزية المنطلقة من روح انتهازية لا ترى من الوطن غير حجم الغنيمة .
يقول ميلان كونديرا في كتابه “لقاء” وفي صدد تحليله لرؤية تولستوي الروائية لروح التاريخ ومنطقه: “يجادل تولوستوي ضد الفكرة القائلة بأن التاريخ تصنعه إرادة الشخصيات العظيمة وعقلها. حسب رأيه، التاريخ يصنع نفسه بنفسه، خاضعا لقوانينه الخاصة التي تبقى مع ذلك مبهمة للإنسان. فالشخصيات العظيمة هي أدوات لاواعية للتاريخ، تنجز عملاً يظل معناه خفياً عليها.
ترغم العناية الإلهية كل واحدة من تلك الشخصيات على التعاضد، وهي تتابع في الوقت ذاته أهدافها الشخصية، لبلوغ نتيجة واحدة وعظيمة، ليس لدى أي واحد منهم أدنى فكرة عنها، سواء نابليون أو الإسكندر أو حتى أي شخص فاعل أدنى منهما” ويضيف: “يعيش الإنسان لذاته بشكل واعٍ، لكنه يشارك بشكل غير واعٍ في متابعة الأهداف التاريخية للإنسانية جمعاء” ليصل في النهاية إلى استنتاج يختزل تعريفه للتاريخ بكونه “الحياة اللاواعية، العامة، الجماعية للجنس البشري..”.
يرى تولستوي، حسب قراءة كونديرا،حركة التاريخ كقدر ميتافيزيقي تحركها قوى لا وعي جماعية، وبغض النظر عن دقة هذه الرؤية، إلا أن كون المحركين المباشرين للوقائع التاريخية هم في الواقع أدوات لاواعية لا يخلو من وجاهة تتعلق بالطبيعة العشوائية للأحداث حين تخرج عن سيطرة المخطط له، ولا يعود هذا الرضوخ لقوى غامضة تٌسيّر الشخصيات إلى ما يسمى بنظرية المؤامرة ، لكنه يتعلق بطبيعة الانفلات العقلي الذي يدير الوقائع، خصوصا في الأوقات الكثيفة للتاريخ، مثل الثورات المؤسسة على هيجان جماعي ، ما بالك حين يشتد خطاب مصاحب وغريب يؤكد على أن ميزة هذه الثورات كونها دون قيادة أو مخططين لها كما توصف ثورات الربيع العربي، وينطبق هذا الوصف على تلك الأسماء التي تتكرر الآن في نشرات الأخبار والتي تظهر على الشاشة أو تحتاج ليبيا لتوقيعاتهم كي تخرج من الأزمة، وبمجرد تأمل تصريحاتهم وسلوكياتهم، أو معظمهم، سنكتشف أنهم يتصرفون بلاوعي كالواقع تحت تأثير مخدر، وكأنهم تحت ضغط قوى غيبية، وهو العارض الذي يجعل الليبيين يعتقدون أنهم مسيرون من قوى خارجية تنفذ أجندات خفية.
فهل للتاريخ كظاهرة طبيعية أجندته الخاصة التي يمليها على شخوصه كما يشير كونديرا في تحليله لرؤية تولستوي للتاريخ؟ ومن جانب آخر هل ثمة وعي فعلا لدى هؤلاء الذين يقودون القاطرة بأنهم يصنعون تاريخهم الشخصي الذي سيرثه أبناؤهم وأحفادهم، وتاريخ الأمة ومصيرها في هذه المرحلة الصعبة؟.
أنا شخصيا أشك في ذلك، لأن ما يبدو جليا أنهم يعتقدون أن المدى التاريخي موجز في أعمارهم، وأن مصالحهم الشخصية لا تتعاضد مع المصلحة الوطنية، وهم يحدقون في المستقبل فلا يرون سوى ما يرى المسافر في الضباب، معتقدين دون ريب في الحكمة الشائعة: أن تورث أبناءك ثروة طائلة أو عقارات أفضل من أن تورثهم تاريخا أو معنى لا يسمن ولا يغني من جوع، ومثل هذه الثقافة تفشت حقيقة طيلة مرحلة الفساد التي سادت العقود الماضية معززة بروح ازدراء منهجية لفكرة التاريخ نفسها، أو كما يستطرد كونديرا في صدد رصده لتصور تولستوي للفضاء الضبابي الذي تتحرك فيه شخصياته: “تتقدم هذه الشخصيات في حياتها وهي لا تعرف معنى التاريخ أو مساره المستقبلي، ولا تعرف حتى المعنى الموضوعي لأفعالها (التي تشارك بها “لاشعورياً” في الأحداث التي يخفى معناها عليها) مثلما يتقدم شخص في الضباب. أقول ضباباً وليس ظلمة.
في الظلمة، لا يرى المرء شيئاً، فهو أعمى وتحت رحمتها وليس حراً. أما في الضباب فهو حر لكنها حرية الشخص الذي يوجد في الضباب: يرى على مسافة خمسين متراً أمامه، ويستطيع أن يميز بوضوح ملامح محدثه وبوسعه أن يستمتع بجمال الأشجار المنتصبة على طرفي الطريق”.
تحدث عبدالجليل عن مرحلة يكسوها الضباب الكثيف، والآن حين انقشع الضباب عن تلك المرحلة وصرنا نرى الأمور أكثر وضوحا، بدأنا المحاكمة بزمن رجعي لمرحلة لم يكن فيها ما نراه الآن مرئياً آنذاك، والآن يدرك هو ومن تصدى لقيادة تلك الفترة الكثيفة أن التاريخ أنشأ محكمته وبنى أقفاصه واستدعى شهوده، وعلى كل متهم أن يرافع عن نفسه بعد أن وجد نفسه على منصة الاتهام يحاسب بالنتائج المعقلنة عن ما اقترفته الأسباب العاطفية حين كانت الثورة تغذيها العواطف الجياشة وهي ترتجل، ولا يمكن للثورة أن تستمر سوى بالارتجال والعاطفة.
يبقى لعبد الجليل شجاعتان. شجاعة تقلده لمنصب أعلى في ثورة ناشئة لم يعرف مصيرها بعد ضد نظام لا يرحم من ينتقده حتى بكلمة، وشجاعة أنه بعد 7 سنوات اعتذر للشعب عن أخطائه التي ارتكبها حينما كان الضباب يلف كل شيء، بما فيها نوايا ذلك التيار الديني الذي تسلل إلى وجدانه ووجدان الكثير من الليبيين الذين كانوا مازالوا يثقون في من هبط من المنبر إلى منصة الميدان الذي كان التكبير لازمة كل من تحدث فيه، وكأن الثورات التي قامت عبر الفيس بوك والتويتر من أجل أهداف سياسية حقوقية تعود بسيوفها ومعاولها إلى زمن الأصنام والجاهلية الأولى. من هذا الالتباس الكبير دخل تجار الدين على الحدث مزايدين بالجمعة والجامع وشرع الله، ومن هذا المدخل ارتكب عبد الجليل والكثيرون أخطاءهم. وتظل فضيلة عبد الجليل أنه امتلك شجاعة الاعتذار ولم يفرط في ذكر مزايا رفاقه الذين اختلف معهم.