تشكيليون ليبيون: الفنّ يُنعش المشهد العام إنسانيًا وجماليًا
خاص 218| خلود الفلاح
الشائع أنه في زمن الحروب والفوضى تتراجع الفنون. في هذا الاستطلاع تحدث تشكيليون ليبيون عن مقاومتهم بالفن للحرب الدائرة في بلادنا. فكان السؤال، إلى أي مدى كانت الحرب حاضرةً في اللوحة التشكيلية؟ هل يمكن للفنّ أن يُقاوم وحشية الواقع؟ كيف يمكن للفنان خلق أكثر من حيوات وأفكار داخل اللوحة؟
وتقول المصورة الفوتوغرافية ندى أبوغرارة: عندما بدأت الحرب لم أستطيع الدخول إلى خط النار لما يشكله من خطر، ولكن حاولت تغطية الجانب الآخر من هذه الحرب وهو تصوير البيوت التي تهدمت وأصبح أصحابها في الشارع بلا مأوى، وأيضا بلا مصدر رزق، تجولت بالكاميرا كمصورة وصحافية مستقلة داخل المدارس التي سكنها المئات من النازحين، دخلت إلى غرفهم وتحدثت معهم عن أحوالهم المعيشية الصعبة ومعاناتهم واحتياجاتهم ولفت نظري النقص الشديد في أشياء ضرورية مثل الدواء خصوصًا لمن لديهم ظروف صحية خاصة.
وأضافت: دورنا اليوم هو تقديم صور وأفلام ولوحات تشكيلية تجسد معاناة النازحين، أحب تسليط الضوء على المظاهر الجميلة والوجه الحسن في بلادي لبث التفاؤل في النفوس، أذهب إلى الحارة حيث الأبواب العتيقة والحروف القديمة والتي يفوح منها عبق التاريخ.
حضور الحرب
يقول الفنان التشكيلي علي المنتصر: منذ البدايات الأولى في احترافي النشاط الفني البصري كان التوجه والاهتمام بالحالة الإنسانية الشاملة هو جوهر ومحور جل انتاجي الفني الذي قدمته على شكل مراحل فنية مدة ثلاثة عقود من الفعل الإبداعي، مما جعل من تجربتي حالة فنية ذات خصوصية تعالج المآسي الإنسانية بشمولية لا بمنظار خاص.
وأضاف: تمدد هذا التوجه وازداد عمقا عندما أصبحت الحرب تمثل جزء كبيرا من قوتنا اليومي، أصبحنا نتذوق طعم الموت مع رغيف الخبز ومع كل لحظة تتقدم فيها عقارب الساعة نحو مستقبل مجهول، لقد أفصحت الحرب عن ظهور وضع جديد وشكل جديد للحياة كان ثمنه مروعًا، وكفنان معاصر لهذه الأحداث، هذا الشكل الجديد كان هو الزاد المرّ الذي تناولت به رؤيتي للحياة داخل اللوحة بمنظور فلسفي يحاكي الواقع من جانبه المظلم.
يُؤمن علي المنتصر أن الفن مادة تخاطب الوجدان وترتقي بالفكر نحو السلام والعطاء. وهو الخصم الأكثر إقناعًا في مواجهة القبح المتمثل في الدمار الأخلاقي والفكري والجسدي الذي تتركه الحرب على النفس البشرية.
في المقابل، أوضحت الفنانة التشكيلية حميدة صقر أن الحرب منذ بدايتها كانت موجودة في أعمالي باللون الأبيض والأسود، الحرب لا ألوان لها ولا خيارات فيها الموت أو حياة، الحرب صنعت أسلوبي الخاص وأثرت في نفسي بشكل كبير فعملت على تأسيس بنيانه بالألم والأمل المنتظر ودون يأس بوجود النور الذي يظهر لنا من الظلام بتشكيل ولادة جديدة لعمل فني يحاكي آلام الإنسانية بكل صدق وبدون محاباة.
وأضافت: يمكن للفنان خلق حوارات وأفكار داخل اللوحة. يعتمد هذا على مدى ثقافته وخبرته واجتهاده المستمر بخلق أفكار في عمله الفني، يمكن للمتلقي والناقد التماس شخص الفنان والتعرف عليه من خلال عمله.
وذهب الفنان التشكيلي عادل الفورتية إلى أن نسيان الواقع البائس الذي يلتف كحبل على أعناقنا يتطلب مواجهته أولاً، وقال: الحياة بسطوتها تحتاج إلى جماليات من نوع آخر تحتاج إلى الصدق كقيمة معنوية قادرة على تشخيص ما حولنا من عبث وفوضى، الحرب قيمة أيضًا لكنها بالأساس قيمة مضادة للسلم! ولهذا كانت الحرب آخر الحلول عند المفكرين السياسيين الذين يعون هذا الطريق المدمر لحياة المجتمعات، للأسف حياتنا بمجملها تخاض بالحروب في مجتمعات العالم الثالث، الحرب ماثلة في لوحاتي كونها مُعاشة ومُتمثلة في ذلك الواقع الذي فرض علينا في الغالب. وهنا يكمن السؤال: هل بمقدورنا تجميل أو تحويل كل ذلك البؤس إلى شاعرية وجمالية ما؟ نعم بالفعل الفنُّ قادرٌ ويستطيع، الحرب التي اخوضها وأمثلها في لوحاتي هي حرب الفن في مواجهة تزييف الواقع.
يوميات الخوف
من جانبها، قالت حميدة صقر: الفنان لا يحب تجسيد الألم والدمار ولكن الأحاسيس والمشاعر الملتهبة بالغضب والألم هي الأسبق للتعبير عن اللحظة وبكل مصداقية.
وأضافت: التعبير عن وحشية الحرب يختلف من فنان إلى آخر. بمعنى يختلف أسلوبه في التعبير عن مشاعره وأحاسيسه نحوها.
وأفاد عادل الفورتية أنه في ليبيا ومنذ زمن طويل كانت الحرب كامنة عند الكثيرين كانت فقط تحتاج إلى من يشعل الفتيل وقد حصل.
وأضاف: بالنسبة لي كنت متابع ومراقب لما حدث وكانت إرهاصة لبداية مشروع يسعى إلى تمثيل وتجسيد تلك الأحداث المأساوية والعنيفة، كنت راصدا لجميع تلك التحولات التي واكبت الحروب والتي كانت في بعض الأحيان مناقضة تماما للتوقعات من قبل الكثيرين، بوابة السلام في بلادنا لا تزال بعيدة المنال.
وقال علي المنتصر إنه قد تناول موضوع الحرب بمنظور فلسفي بعيدا عن الصورة النمطية التي عادة يتم بها رصد وتوثيق صورة الدمار والموت في شكله المباشر.
وأضاف: قدمت أعمال فنية بأحجام كبيرة وألوان صارخة تحاكي حجم الدمار والألم المعاش فجاء الرد على شكل مرحلة متكاملة تحت اسم “الشرخ” مرحلة تحمل تصوّرها من جانب فلسفي إبداعي وبرؤية معاصرة ترصد صورة قاتمة من صور هذا الزمن.
وعلى جانب آخر ، أردف “المنتصر”: ذلك هو “الشرخ” القديم، الجديد مرحلة تجسد بتجرد فج رؤية الفنان للحياة بمنظور فلسفي تحمل كثير من الإيحاءات المفتوحة للبحث والتأمل، قراءة في نشأة وتطور الأشياء عبر زمن من الإهمال والجشع حتى أصبحت أزمة، مرحلة ترصد صناعة القبح والأزمات الناتجة من الفعل البشري والتي لا زالت تنخر في جسد الحاضر كورم أنتشر. الإنسان الذي أخطأ في تعامله مع ذاته من جهة ومع محيطه من جهة أخرى، هذه المرحلة بمثابة تلخيص لتجربة ثلاثة عقود من التجريب والبحث في كل أغوار الحياة وصولا لمعايشة أحداث ساخنة تمثلت في الحرب القائمة بعد التحرير، عكست هذه الأحداث بوجهها القبيح صورة قاتمة شديدة اللهجة غيرت كل المفاهيم الأخلاقية والإنسانية التي كانت سائدة قبل اندلاعها، ليسود الإحساس الغامر بالضياع واليأس. لتتحول هذه التراجيديا القاتمة لمادة دسمة تجسدت يومياتها في أعمال فنية ممزوجة برؤية فلسفية معاصرة جسدت صورة للواقع بمنتهى القسوة والفجاجة ترصد نزعة فضائحية تُحاكي عنف الغرائز والعجز والتشوهات التي طغت على المشهد العام للحرب.
الفن حياة
وقال التشكيلي عادل الفورتية: الفنّ يمكن أن يكون بديلا لهذا الواقع البأس والذي يفرض من قبل المتحاربين على المجتمعات، إحدى الأهداف السامية للفنون انها تستطيع قلب تلك الصورة المقيتة التي تسوقها حالة الحرب.
وأضاف: الواقع ليس متوحشا بالقدر الذي يمكن للإنسان أن يكون مساهما في تعميم تلك الصورة عليه، نحن من يفرض على الواقع ذلك التصور البغيض (الأنا / الفنان) قادرة على تغيير تلك النمطية على الواقع من خلال الكشف عن جمالياته البصرية المتنوعة والمتميزة المتمثلة في (المعارض التشكيلية / السينما / التلفزيون / الشعر / الرواية / الموسيقي).
وتحدث “الفورتية” عن الآراء التي تتبنى وجهات نظر مختلفة حول الفن، وقال: إحداها لا ترى في الفن إلا المتعة البصرية فقط وهو ما لا يقبله، الفن بالنسبة له حالة يقظة على الدوام، الفن شعلة نارية تثيرنا باستمرار وتستفزّنا أيضًا، مُهمّة الفنّ تعرية وكشف وزيف وتناقض حياتنا كبشر.
وأوضح أنه يُؤمن كثيرًا بالفنّ المواكب لقضايا الإنسان والمتحقق من خلالها، ومن أجل هذا تخلق اللوحة بجميع حيثياتها وأبعادها وما تتضمنه من أفكار ورؤى تنسج وجودًا مغايرة تمامًا لما يتم فرضه على الإنسان من قبل المؤدلجين من أهل السياسة والعقيدة، بحسب قوله.
وأضاف “المنتصر”: الفن نوع آخر من أنواع المقاومة والانتصار، ومن هذا المنطلق الجمالي الرفيع وظفت الحرب كمادة استثمارية في رد فعل على بشاعة القبح الناتج من تلك الحرب، ومثلما الحرب تأخذ منا الكثير فإن الفنّ يجعل من رد الفعل غنائم حرب، وهذا بحد ذاته انتصار.
وأردف: للفنّ دور حاضر وقوي في إحياء وإنعاش المشهد العام إنسانيًا وجماليًا، هو فارسٌ قادرٌ على إزالة ركام الحرب وقذفه بعيدًا عن أرواحنا التي أنهكها طول الانتظار، ذلك الفارس الذي كان حاضرًا في توقيته الصحيح وهو يمتطي الحياة وفي يده قوس قزح.
وقالت التشكيلية حميدة صقر: هناك ثلاث أنواع من الفنانين يظهرون أثناء الحرب؛ النوع الأول، فنانون تفاعلوا مع الحرب وعبروا عن آلامهم ومشاعرهم بدون خوف وبكل جرأة، والنوع الثاني، فنان سلاحه المقاومة بالجمال ونشر ما هو أكثر تفاؤل، كي يخبر نفسه أن الواقع جميل ولا وجود للحرب حتى ينسي نفسه بأن الدمار والحرب قائمة ولا يمكن مقاومتها إلا بالكذب على نفسه، وإن كل شيء على ما يرام.
وأضاف: نوع ثالث نجد أن صدمة الحرب أكبر من مقاومته لها بالفن، هذا يعتزل الفن ويغيب، أقول، وحشية الحرب يُمكن مُقاومتها بالفن الحرّ، والصادق بالتعبير عن اللحظة بدون خوف أو تردد، وبذلك يكون الفن خير مرصد وموثق للتاريخ بدون تزوير أو تغيير.
انعكاسات تشكيلية
وقال الناقد التشكيلي الدكتور عياد أبوبكر هاشم: عبر كل الأمكنة والأزمان كان الفن متواجداً ومعبراً عن يوميات وقضايا مجتمعه من وسط وعمق الحياة، سعيدة كانت أم مؤلمة؛ فالفنان بطبيعته في تكوينه مجموعات من الإحساسات والشعور، يسعد ويتألم بما تمليه عليه هذه الحياة من واقع حسي تتداخل فيه عوالم مؤثرة مختلفة، صور الحرب والدمار والألم والضياع والجوع والتشرد كلها أشياء وصور وذكريات تختزنه مخيلة الفنان فتستحضر في تكويناته التعبيرية في عمله الفني بحسب لغته الفنية وأسلوبه واتجاهه الخاص به، فضلاً عن انتماءاته الاجتماعية وعلاقاته التبادلية مع مجتمعه، والجمال بالنسبة له غاية كل عمل فني يقوم به تلهبه المشاعر وحرقة الألم لحروب صادمة خارج إرادته ، يبحث الفنان في تعبيراته عن الحرب وعن الحقيقة وراءه مُجسّدًا عالم الانسان المتهور ونقيضه في عالم تهاوت فيه الإنسانية والأخلاق باحثًا في الوقت نفسه عن جمال الاداء والعرض، يحركه تمثيلاته التشخيصية وسط عالم يضج بالانفعالات القاسية والمؤلمة يوثق فيها حالات هستيرية غاضبة تمتزج فيها كل عناصر الغضب والاشمئزاز والسخط على ما هو حقد وثأر، في هذه الحروب التي يظهر لهيبها بدون حتى إنذار أو مبرر حقيقي يذكر إلا لمجرد الحرب والعناد والسيطرة، والذهاب إلى ألا معقول.
وأضاف: كثيرة هي الانعكاسات التشكيلية والصور والأعمال الفنية التي كانت تؤجج نفسية الفنان وغضبه من الحروب اللعينة، فمنذ الأعمال الفرعونية على جدارياتهم الهيروغليفية وكذلك معظم رسوم الأزتيك والانكا، وأفتتن الفنان الإيطالي اوتشيلو، على رسم الحروب وفظاعتها، بالإضافة إلى الفنان أنطوان غارون الذي تفرد برسم لوحات تتحدث عن الحروب ومجازرها، وصولاً إلى بيكاسو في “غيرنيكا” في القرن العشرين الشهيرة، ثم ديكس الألماني الذي ناهض الحرب بجميع أنواعها وأشهرها لوحة “الحرب” بالتحديد تلك “الثلاثية” الضخمة، ثم الفنان الشهير بيتر ديك، كان بسبب لوحاتـِه تعرض في طفولته لمحن الحرب العالمية الثانية واضطهادات عصر ستالين، مما انعكس جلياً على نفسيته كثيراً وخيبة أمل قاسية، بينما كان الفنان بيتر هاوسون وهو رسام اسكتلندي من إنجلترا وثق الإبادة الجماعية لثمانية آلاف إنسان في البوسنة، ومن أهم فناني العرب الذين اهتموا بقضية العرب الأساسية فلسطين الفنان الفلسطيني ناجي العلي بشخصيته الكاريكاتيرية “حنظلة”.
واختتم “هاشم” حديثه بالإشارة إلى البعض من فناني التشكيل في ليبيا الذين تناولوا قضايا المجتمع الليبي مثل الظلم والجوع والبؤس وقسوة الحياة كنوع من الحرب على ما هو يمثل المعاناة التي عاشها الليبي أمثال فوزي الصويعي، عياد هاشم، عوض أعبيدة، عبد السلام النطاح، علي المنتصر، حميدة صقر، بشير حمودة، معتوق أبو راوي، وغيرهم ممن ظهروا من الرسامين الذين سجلوا سخطهم على الانتهاكات والحروب بين الحين والآخر، فكانت أعمالهم مرسومة على جدران الشوارع والأزقة في كل مكان، إضافة إلى الكاريكاتير المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الورقية حيث برز كأكثر الفنون التي اهتمت بشكل مباشر بالأحداث الجارية، فكان الفنان محمد الزواوي من أكثر وأهم الفنانين المعروفين بالنقد اللاذع وتناوله لحروب مختلفة عربية ودولية، أيضًا حسن بن دردف، محمد الشريف، خيري الشريف، حامد قرينيط، والفنان حسن دهيميش المعروف باسم “الساطور”، الذي استخدم ريشته في مواجهة كل ألوان الظلم ونقده للممارسات السياسية لحكومات قبل فبراير وما بعدها أيضًا.