تذكير المؤنث…
فرج عبدالسلام
لا أملُّ، ولا أترددُ أبدا في طرق هذا الموضوع كلما سنحت الفرصة، لأنّ ما يجري لا يكفيه وصفُ الغرابة بل وتصل ردة الفعل تجاهه إلى الحنق، حيث أن للأمر دلالات كبيرة هي أبعد مما يشي به المظهر… والأمرُ يتعلق بإصرارنا في لغة الضاد على تذكير صفة المؤنث، كأن نقول إن فلانة “خبير” في التنمية البشرية ، أو أنها “رئيس” جمعية كذا..على اعتبار أن ذلك يوافق (صحيح اللغة) كما يُشاع! وفي رأيي أنّ الأمر لم يعد يستقيم ويتماشى مع راهن العصر، وعلى مجامع اللغة العربية إيجاد حلّ وتخريجةٍ ما لهذه المعضلة أسوة بما جرى في العراق، التي لا ينكرُ أحدٌ ارتفاع سهم الثقافة وعلُوّ شأن العربية فيها مقارنة بمجتمعات عربية أخرى تُهشّمُ فيها العربيةُ تهشيما لا هوادة فيه، وحيثُ شكلت الحكومة العراقية لجنة دائمة للحفاظ على سلامة اللغة العربية، فكان من ضمن توصيات هذه اللجنة، جوازُ لحاقِ تاء التأنيث في وصف الأعمال والمناصب بالمؤنث إذا كانت مذكرة.
في ظني أنّ في أغلب اللغات البشرية انبرى لغويون بحرصٍ شديد إلى وضع ضوابط لا تقبل اللّبس في ما يتعلق بالإشارة المختلفة إلى ضمائر وصفات وما عداها، لكل من الذكور والإناث خلافا للبس والغموض الذي يجري في لغتنا الآن. وقد يراني البعض (ملكيّا أكثر من الملك) عندما أرى قصورا يرتقي إلى العيوب في لغتنا تجاه هذه المسألة، فيجعلني في حيرة من أمري، بل وأغضب أحيانا قبل أن أسترد وعيي بالتاريخ الذي يخبرنا بوضوح تام أنّ من اخترع اللغة هم بالأساس “الجندر” المسيطر وهم الذكور، كذلك من تصدّوا لوضع ضوابط وقواعد لغتنا وما يختص بالنحو والمنطق والبلاغة هم من الذكور أيضا، ورغم معرفتنا بنساء برَعن في جوانب معينة من العلم والأدب، وجلهنّ طبعاً من الجواري الأعجميات، إلا أننا لم نسمع بمن ضاهت أو حتى قاربت سيبويه، أو الخليل بن أحمد أو غيرهما من الجهابذة في هذا المجال.
المختصرُ المفيد أنّ الذكور باعتبارهم الطرف الأقوى في معادلة الذكورة والأنوثة، قد ساروا على خطى أسلافهم الغابرين وعبّروا من خلال تقعيد اللغة ووضع ضوابطها عن شوفينية بحتة، ومن ذلك أنهم أنّثوا النائبة بمعنى “المصيبة” إمعانا في إلصاق هذه الصفة الكارثية بالأنثى، وبالتالي يعللُ لك أحدهم أنك لا تستطيع إطلاق صفة النائبة على من تمثل الناس في مجلس ما، أو من تنوب عن شخص ما في قيادة إدارة أو مؤسسة ما، وأنك لو فعلت لأضفيت صفة المصيبة عليها، وهلم جراً، كما يُقال. ونعرفُ مثلا أن رضيعا ذكراً يطغى وجوده على جمع من الإناث البالغات مهما بلغت أعدادهن، فيلزم حينها الإشارة إلى ذلك الجمع بصفة المذكّر. هكذا كانت اللغة ومازالت تمارس تحيزا مكشوفا للذكر، لكن ما يدعو إلى الاستفزاز فعلا هو حرمان النساء من تاء التأنيث والإصرار على تذكير صفتها لأن الغابرين رأوا فيه آنذاك صوابا.. فباعتبارهم الطرف الأقوى والأكثر فاعلية في معادلة الذكورة والأنوثة الأبدية، ليسوا إلا معبرين بأمانة تامة عن واقع اجتماعي واقتصادي سائد في عصرهم، لا تلعب فيه الأنثى دورا يُذكر خارج الفراش أو ركن الطبخ وتدبير البيت، وبالتالي فإن إنصافها لغويا لم يكن على رأس اهتماماتهم.
حان الوقت لأن يلتفت المهتمّون واللغويون إلى العربية، وأن يزيلوا عنها الشوائب التي لحقت بها لجعلها تساير المنطق وروح العصر، فالنظريات المؤكدة في هذا المجال تقول إنّ “اللغة التي لا تتطور.. تموت” ولا نريد للغتنا أن تموت، لأننا لا نملك غيرها.