“تحرير” طرابلس.. “تحرير” لأهداف فبراير
سالم العوكلي
منذ بداية انتفاضة فبراير لم استسغ بعض التعبيرات التي لازمَتْها وأصبحت جزءا من قاموسها الاستفزازي. تعبيرات مثل تحرير المدن أو سقوطها، التي توهم بأن ما يحدث ليس (ثورة شعبية ضد نظام محلي) ولكن مقاومة ضد احتلال أجنبي، بينما الصراع الذي حدث طيلة تلك الأشهر كان في الواقع بين فئة ليست قليلة من الليبيين الساعين لإسقاط النظام وبين فئة ليست قليلة أيضا من الليبيين المؤيدين لهذا النظام أو الخائفين من المغامرة، وتمخض هذا الحراك في النهاية عن صدام مسلح يقع في دائرة الحرب الأهلية التي قامت فيما بعد أجندات دولية وإقليمية ووسائل إعلام كبرى بإدارتها كما تتطلب مصالحها، ولهذا السبب كانت تستفزني مثل هذه التعبيرات، وعادة ما كنت استعيض عنها لوصف ما حدث بتعبير “خروج المدن عن سيطرة النظام”.
كانت مثل هذه الأوصاف الاستفزازية والبعيدة عن حقيقة ما يحدث تغذي المزيد من الكراهية بين مكونات ومدن وأقاليم ليبيا، مضافاً إليها تلك النعوت؛ التي كانت تطلق من قبل الطرفين عبر الخطب أو وسائل الإعلام الرسمية والمرتجلة، مثل: الجرذان أو الطحالب أو الأزلام أو غيرها من مفردات التنابز المتبادلة.
لم تكن المدن الليبية التي خرجت عن السيطرة محتلة من قبل قوة أجنبية، أو حتى عميلة، لنسمي خروجها من قبضة النظام تحريرا، ولم يكن المنتفضون قوة احتلال أو غزوا خارجياً لنستخدم تعبير سقوط المدن ، فالنظام السابق كان نظاما (وطنيا) إذا ما اعتبرنا ثوابت مثل الحفاظ على السيادة الوطنية ووحدة التراب سمات وطنية، كما يحسب للنظام السابق عدم تورطه في أي نوع من العمالة لقوى خارجية طيلة مدة حكمه، وهذه حقائق لابد أن يوثقها التاريخ حتى لا نقع في نفس ما وقع فيه النظام السابق من تشويه شامل وكاذب للنظام الملكي السابق له .
من جانب آخر كان هذا النظام إسلامويا متشددا ومنذ بدايته ، بل أن بعض ضباط الانقلاب كانوا محسوبين على حزب التحرير الإسلامي، أو جماعة الأخوان أو مقربين منهم، بمن فيهم قائد الانقلاب نفسه، وعمل هذا النظام طيلة حكمه على دعم الأقليات والحركات الإسلامية في جميع أنحاء الأرض، وأرسل مبشريه عبر جمعية الدعوة التي تسلم إدارتها جماعات الأخوان إلى كل أصقاع الأرض، ودعا مرارا للحرب على الصليبية والجهاد للدرجة التي ارتبط فيها اسمه بدعمه للحركات الإرهابية.
إضافة إلى موقفه الراديكالي من القضية الفلسطينية حيث انتهى هذا النظام وإعلامه يستخدم مصطلحات مثل “الكيان الصهيوني” أو “قطعان الهمج الصهاينة” و”فلسطين المحتلة”، حتى بعد أن وقع الفلسطينيون أنفسهم على اتفاقيات مع الصهاينة اعترفوا فيها بدولة إسرائيل .
إذن، لم تكن مشكلة الناس مع هذا النظام متعلقة بهذه الأمور، لكنها كانت ثورة على نظام ليبي قمعي أرسى دولة حكم الفرد على أكذوبة الديمقراطية المباشرة أو السلطة الشعبية التي قفز بها أمام مطالب الإصلاح من قبل النخب المطالبة بها. ثورة على نظام أفسد الحياة السياسية وفكك الدولة وفرغها من المؤسسات ونشر الفساد وعاث خرابا في القطاعات الخدمية الحساسة وأهمها قطاع الصحة وقطاع التعليم .
كانت ثورة ضد نظام يفتقد إلى الشرعية التي استعاض عنها بنظام المبايعة، وهل ثمة قبيلة أو مدينة أو قرية في ليبيا لم تبايع قيادة هذا النظام بوثائق من ذهب يكتظ بها الأرشيف الليبي؟ بمعنى أن هذا النظام من المفترض أن يكون شرعياً وفق رؤية الإسلاميين التي تطالب بتحكيم الشريعة.
كانت هذه هي المبررات الأساسية لحراك فبراير الذي لم يكن ليكون لولا قيام ثورتي مصر وتونس، وانخراط القوى الدولية في هندسة المنطقة وفق هذه الظاهرة الشعبية الجديدة وغير المتوقعة بالنسبة لحدوس وتوقعات مراكز دراسات تلك القوى حيال المنطقة .
وانتهى النظام في النهاية . لكن ماذا حدث بعد نهايته ؟
ما حدث أن كل الأسباب التي كانت سبباً في هبة فبراير أصبحت أكثر حدة وأكثر استشراءً، قتل وقمع وتجويع وفساد، يضاف إليها التفريط في السيادة الوطنية وفي وحدة التراب، والعمالة الخفية والمعلنة من قبل الكثير من التنظيمات السياسية أو الميليشيات لقوى دولية وإقليمية وأجهزة مخابرات عالمية، ولم يعد هذا الأمر خافيا، بل أن بعض القوى تستخدمه الآن كوسيلة لترويع الأطراف الأخرى .
وسبب انحراف الثورة عن أهدافها المقترحة بعد سقوط النظام هو انحرافها بعد فترة وجيزة عن هويتها وأسبابها قبل سقوطه نتيجة لسرقتها من بعض القوى المنظمة، وتحويرها، وفق أجندتها، كثورة دينية ضد نظام كافر وأتباعه، عبر التكبير والتكفير والاستشهاد، والبعض طرحها كمقاومة لاحتلال أجنبي عبر استخدام مصطلحات تحرير أو سقوط المدن.
حين اتُخِذ القرار من قبل المجلس الانتقالي ومقاتليه مؤيدا من الناتو بدخول طرابلس في ذكرى دخول النبي وأصحابه إلى مكة، خرج علينا مصطلح جديد وهو “فتح طرابلس”، وهو مصطلح يضمر في داخله تكفيرا لكل من هم داخل المدينة، ويؤكد على أن هذه الثورة ثورة دينية وليس كما أعلنت أهدافها في أول بيان لها من ميدان المحكمة ببنغازي ثورةً سياسية لها أهداف تتعلق ببناء الدولة الديمقراطية الحديثة.
وما حدث في النهاية أن (الفاتحين) لطرابلس (الكافرة) بدءوا في السلب والنهب والانتقام من كل المحسوبين والمحسوبات على (جاهلية) النظام السابق بشكل عشوائي، وبدأت قوافل الغنائم تتهاطل على المدن المحيطة بالعاصمة، وتحول الدخول إلى المدينة الليبية إلى نوع من الغزو والاحتلال الذي مازالت تقوم به حتى الآن ميليشيات مسلحة من خارجها ومدعومة من قوى إقليمية ودولية، ولينزح حوالي ثلث سكانها ويقبع بعضهم في السجون تحت التعذيب، والبعض يقتل داخل السجون كما حدث في مجزرة سجن بوسليم . وليتلو هذا الغزو فيما بعد غزو آخر لمدينة ليبية (بني وليد) وبقرار من أعلى سلطة تشريعية منتخبة من المفترض أن تكون ممثلة لكل القرى والمدن الليبية، بما فيها المدينة المغزوة، في سابقة خطيرة في تاريخ الثورات أو السياسة أو الأخلاق بصفة عامة . وخرج هذا الحراك عن مساره وأهدافه وأخلاقه تماما، فأوغل في الدم، وفي تصفية الحسابات القديمة، وفي الجريمة التي انتهت أخيرا بالانقلاب المسلح على المسار الذي اختاره الليبيون وتدمير مطار طرابلس ومستودعات النفط ، وتسمية معارك أهلية بمصطلحات دينية كانت تسعى لإشعال حروب بين أقاليم ليبيا.
لم استسغ أثناء كل ذلك تعبير “تحرير طرابلس” لكني بدأت استسيغه الآن بعد أن ظهر من جديد كعنوان لمرحلة قادمة، والسبب إحساسي، وربما إحساس الكثيرين، بأن طرابلس الآن فعلا محتلة ومختطفة من قبل ميليشيات خارجة عن القانون مرتبطة لوجستيا بقوى وأجهزة مخابرات خارجية ، ومن قبل تنظيم أممي يتلقى أوامره من تركيا وقطر. تحتاج لتحريرها فعلا من عصابات المال التي تعيث فيها قتلا واغتصابا وخرابا. ومن تجار الرقيق الذين يلقون يوميا بالآلاف من المهاجرين في مقبرة المتوسط الجماعية، ومن الظلاميين الذين اغتالوا غزالتها وصلبوا في مكانها سيدة طرابلسية تستجدي لقمة العيش لأبنائها.
استسيغ هذا التعبير المعبر عن واقع الحال لكني أحبذ أن تسمى المرحلة القادمة عودة طرابلس. لكني لم ولن استسيغ أبدا تعبير “سقوط طرابلس” لأن عروس البحر ومدينتنا الجميلة لا يليق بها السقوط إلا في القلب، على القوات المسلحة الليبية الموحدة أن تسمي معركتها القادمة لاستعادة العاصمة “معركة عودة الشرعية” أو “معركة عودة المسار الديمقراطي” لأن هذه التسمية تدحض إدعاءات من يعتبرون معركة الجيش مع الإرهاب سعي نحو السلطة أو الدولة العسكرية، ولأن طرابلس عاصمة وحين تعود إلى الشرعية وحضن الوطن فيعني هذا عودة أهداف فبراير الأصلية، وعودة المسار الديمقراطي الذي انقلب عليه بالسلاح مغتصبو العاصمة، سارقو الحلم الليبي وهو في مهده.