تحرير بنغازي وتكفير الإباضية
عمر أبو القاسم الككلي
أريد أن أبدأ بسرد واقعة طريفة شهدتها منذ قرابة خمسة عقود. جرت الواقعة بين فتاتين في حوالي الخامسة عشر، إحداهما جارتنا والأخرى يبدو أنها كانت تزور أقارب لها يسكنون في نفس الشارع، ولكن على مبعدة منا. كانت الفتاتان على درجة ملحوظة من القبح. كنت أقف أمام باب بيتنا. يبدو أن مناوشة وقعت بين أخوة جارتنا الأطفال وأقارب أو أخوة الفتاة الزائرة، الأمر الذي أدى بالفتاتين إلى التدخل والتلاسن. قالت جارتنا القبيحة مخاطبة الفتاة الخصم القبيحة:
يا شينة!.
ففوجئت بانخراط الأخرى في نوبة ضحك وتصفيق مرددة:
انتي هي الي قنينة!.
كانت تضحك على السبة ضحكا صادقا وموضوعيا وتصفق بتهكم وإحساس حاد بالمفارقة. وظلت الأخرى صامتة.
تذكرت هذه الواقعة وأنا أقرأ “بيان وتوضيح اللجنة العليا للإفتاء بشأن التشغيب على فتوى قديمة صادرةعنها تمإظهارها تزامناً مع تحرير بنغازي”!. ومطابقة المفارقة الواردة في البيان والتوضيح هذا والواقعة المسرودة أعلاه قول اللجنة: “وقدلاحظت اللجنة أن طوائف من التكفيريين…”. هي طبعا تضيف العلمانيين. ولكن لنترك هؤلاء في هذا السياق ونركز على التكفيريين، الذين تقصد بهم توجهات وشخصيات دينية، حيث تضيف أنها “… رَدّت على فتاوى المجرم الغريانيّ التكفيرية التي تدعو لسفك الدماء المعصومة،ورَدّت على مايُسمى بهيئة علماء ليبيا التكفيرية، ورَدّت على قناتي النبأ والتناصح التكفيريتين.”. وتدافع اللجنة عن “وسطيتها” بالتدليل على أن “أكثرقادة هذه الحملة على الفتوى وتشويهها وتهويلها وتأويلها هم من عُرِفوا بالتكفير والإرهاب والعمالة، كقناتي الجزيرة والتناصح، وجماعةالإخوان المسلمين الليبية الإرهابية، ومايسمى بهيئة علماءليبيا التكفيرية.” وتضيف إلى هؤلاء “بعض أرباب العلمانية العابثين في البلاد بالفساد، والمتحالفين مع الغرب في فرض حكوماتٍ تجمع شتات الإرهاب.”. ويحمد لها أنها لم تجمع العلمانيين جميعا ولا أربابهم كافة، وإنما “بعض أرباب العلمانية”. ولكن، مرة أخرى، فلنترك العلمانية، بما أنها لا تكفر أحدا. ونضحك على “الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية” التكفيرية التي تنعت بعض الشخصيات والهيئات الدينية والقنوات التلفزيونية بالتكفيريين. إنها بفعلها هذا تماثل الفتاة القبيحة التي عيرت نديدتها القبيحة بالقبح!. فنحن نقولها صراحة: أية فتوى تكفيرية تصدر عن أية مرجعية دينية، سواء كانت مؤسسة أو شخصا، هي قبح وجريمة.
المسألة الأخرى، وهي ثانوية في نقاشنا هذا، أن صياغة عنوان البيان فيها اضطراب وحشو، إذ كان الأنسب أن يكون “بيان… بشأن…” أو “توضيح… بشأن…”. كما يبدو أن كاتب هذا البيان (الذي لا بد أن يكون أحد أعمدة هذه اللجنة” يعاني نقصا في معرفته بالنحو العربي. فقوله أن: “طوائف من التكفيريين والعلمانيينأثارتفتنة وتحريشاًبين المسلمين (أمازيغ وعرب)” فيه خطأ نحوي، والصحيح: ” أمازيغَ وعرباً” منصوبة على التمييز، وليست مجرورة على البدل كما يبدو أنه يعتقد.
في البيان أيضا محاولة للتمويه واللعب بالحقائق بخصوص تكفير المذهب الإباضي وتوجيه النقاش إلى نفي اتهام الأمازيغ. حيث يرد: “علماً بأن الفتوى ليس فيها ذِكرٌ للأمازيغ”. والحقيقة أن الاحتجاجات الموجهة ضد الفتوى منصبة على مبدأ التكفير ذاته، وما تطرقها إلى الأمازيغ إلا من حيث أنهم يتبعون المذهب الإباضي الذي تكفره الفتوى محل الاحتجاج صراحة ودون مواربة، إذ تقول: “الإباضية فرقة منحرفة ضالة”.
أما مسألتا خلق القرآن ورؤية الله في الآخرة من قبل المؤمنيين (اللتان تكفر اللجنة المذهب الإباضي بخصوصهما لأنه، كما تقول، يقول بالأولى وينكر الثانية) فهما داخلتان في “علم الكلام” وليس في الفقه. ذلك أن قضية خلق القرآن، التي قال بها المعتزلة، لا تعني أن القرآن ليس من الله، كما يتوهم من ليست لهم دراية بالموضوع، وإنما تعني لديهم أن القرآن مخلوق من مخلوقات الله مثل أي مخلوق آخر. فالمعتزلة، من باب توحيد الله وتنزيهه، نفوا القدم عن أي شيء عداه وأن كل الأشياء، بما في ذلك القرآن، حادثة، أي مُحدثة ومخلوقة من قبله. وهذه القضية، وسواها من القضايا الكلامية، لا تستوجب تكفيرا إلا من قبل المتطرفين.
تقول اللجنة العليا للإفتاء أن الفتوى “قديمة صادرةعنها تم إظهارها تزامناً مع تحريربنغازي”.
أليس هذا تعليلا مضحكا؟!. ما علاقة تحرير بنغازي بتكفير الإباضية؟!. ما علاقة تحرير بنغازي بقضايا علم الكلام؟!. هل كان الإرهابيون الذين تم تحرير بنغازي من قبضتهم إباضيين ويقولون بخلق القرآن وينفون إمكانية رؤية المؤمنين لله في الآخرة؟!. إذ أجزنا، جدلا، مبدأ التكفير كان الأحرى باللجنة تكفير داعش ومن سلك سلوكهم. لكن اللجنة، بمناسبة تحرير بنغازي، تصمت عمن كان يقتل ويذبح ويشرد الآمنين ويدمر العمران، وتُخرج، بمقتضى إرادتها الحرة، فتوى قديمة تكفر الإباضية!.
الآن أنا في منتصف العقد السابع من عمري، وطوال حياتي كنت أسمع بالعذر الأقبح من الذنب، ولم أصادف مثالا له إلا بعد قراءتي: “بيان وتوضيح اللجنة العليا للإفتاءبشأن التشغيب على فتوى قديمة صادرةعنها تم إظهارها تزامناً مع تحرير بنغازي”!.
ترى على من سيأتي الدور بالتكفير من قبل اللجنة العليا للإفتاء بالهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية التابعة إلى الحكومة المؤقتة، تزامنا مع تحرير درنة؟!.