تبعات الوشاية
عمر أبو القاسم الككلي
كثيرا ما نتصرف، نحن الكبار، على أساس أن الأطفال لا يفهمون كثيرا مما يجري حولهم. وهذا ليس صحيحا دائما. فكثيرا ما يفهمون ما نقوم به أمامهم أو نقوله، حتى بشكل معمى، لكنهم لا يفصحون، أو أننا نحن، نتيجة فكرتنا المسبقة هذه، لا ندرك أنهم فهموا. علاوة على أنه لا يمكننا التحكم في ذاكرتهم. فما لم يفهموه الآن قد يتذكرونه بعد فترة من الزمن، تقصر أو تطول، ويدركون أبعاده، بناء على نموهم العقلي وما يكتسبونه من معارف جديدة.
الحادثة التي سأرويها أدناه لم تحدث وأنا طفل صغير، وإنما وقعت حين كان عمري في حدود الحادية عشرة.
كنا حينها نقيم في مزرعة في الفرناج شرق طرابلس، تملكها امرأة إيطالية، كان يديرها أبي.
في فترة استأجر أبي رجلا ليقوم بتقليب التربة بين أشجار البرتقال وتهيئة الأحواض تحتها والسواقي التي ترويها. كان هذا العامل يتكلم الإيطالية بطلاقة (أو هكذا خيل إليَّ حينها).
ذات مرة جاءت إلى المزرعة مجموعة نساء إيطاليات كي يأخذن بعض شجيرات الصبار التي كنا ننظر إليها نحن على أنها مجرد نباتات شائكة.
نادى أبي العامل كي يقوم بعملية الترجمة. لم تكن النساء يشترين الشجيرات (فلم يكن أبي مخولا ببيع شيء) وإنما كن يمنحن أبي ما يخطر لهن من نقود. أعطى أبي قدرا من النقود للعامل، لكن يبدو أنه استأثر لنفسه بالنصيب الأوفر.
بعد عدة أيام جاء وكيل أعمال مالكة المزرعة الإيطالي وكان أبي غائبا. فناديت أنا العامل كي يترجم بيننا. والوكيل يضم سجلاته وأختامه أخذ الرجل يخاطبه. كان يشير إلى شجيرات الصبار ويقول بلقاسم. فلم يكن الرجل يقيم اعتبارا لوجودي لحداثتي ولإدراكه أنني لا أفهم الإيطالية. لكنني أدركت، من الإشارة وذكر اسم أبي، أنه يوشي بأبي.
بمجرد أن عاد أبي أبلغته بالواقعة. الغريب أنه صدق استنتاجي ووثق بنباهتي!.
في اليوم التالي عندما جاء العامل أبلغه أبي أنه لم تعد ثمة حاجة لعمله. أعطاه أجرته المستحقة وأجرة يوم أو يومين إضافيين وصرفه. سأله الرجل عن سبب الاستغناء فلم يجبه.
ما لم أحسب حسابه، أن أبي عهد بمعظم مهمات العامل إليَّ أنا، وصار يتقاضى هو أجرتي كاملة غير منقوصة.
لقد اشتركنا أنا والعامل في أن وشايتنا ارتدت إلى نحرينا، هو بحرمانه من العمل، وأنا بتشغيلي سخرة، وكان ابي المستفيد الوحيد.