تاورغا جرح في الضمير الليبي
سالم العوكلي
فترة انسحاب النظام السابق من وسواسه القومي واختياره الفضاء الأفريقي أقيم مؤتمر في طرابلس لمنظمات أفريقية شعاره ضد العنصرية، لا أذكر منه سوى أن أحد الأفارقة قال في ذلك المؤتمر خارجا عن النص: أنتم في ليبيا تتشاءمون من اللون الأسود، وتسمون البيت الأبيض البيت الأسود ، وتلونون خارطة كل دولة تعادونها باللون الأسود، لم أرَ عنصرية بهذا الشكل المعلن إلا هنا …… وبالطبع حدث تشويش، وانطلقت هتافات، وقُطع الإرسال ولم نعرف ماذا حدث لذلك المتحدث الذي أشار إلى مكمن العنصرية حين تكون جزءا من التكوين السيكولوجي ومن تكوين لا وعي الشخصية التي لا يمكن أن تعترف في حالة وعيها بأنها تمارس العنصرية.
اللون أحد تجليات المشاعر العنصرية الكامنة في مجتمعنا وثمة مستويات أخرى مختلفة مسكوت عنها تسهم في تعميق الأزمة الليبية.
مثل كل حالات التمرد على الطغيان أطلقت انتفاضة فبراير الكثير من المكابيت بمظهريها الإيجابي والسلبي، انقسمت على مرحلتين، مرحلة الأشهر الأولى من الانتفاضة وحينما كان النظام مازال يقاوم ظهرت العديد من المكبوتات التي استطيع وصفها بالإيجابية، تمثلت في تلك المشاعر العاطفية الجياشة التي انفجرت بين أغلب المدن والقرى الليبية، وروح التعاون والشهامة والإيثار، وغيرها، مما عكس روحا من الانصهار الوطني الذي كان وللأسف عاطفيا ومصطنعا ومؤقتا.
المرحلة الثانية كانت بعد سقوط النظام وبداية اليقظة من سكرة الثورة، حيث أخذ ترتيب الأوراق على أشده بين القوى التي أسهمت بشكل فعال في إسقاط النظام والقوى التي ركبت الموجة والقوى الممثلة لمصالح إقليمية ودولية . وهي مرحلة بدأت المكابيت السلبية تظهر فيها على السطح، وبدأت المزايدة بين القوى السياسية وبين المدن تنافسا على قيادة المرحلة الجديدة والاستفادة من السلطة والثروة الشاغرتين عبر التحكم في السلاح . وعبر هذا التنافس كانت مكابيت مثل الانتقام وتصفية الحساب، والعنف، والتعصب، والعنصرية، تظهر بشكل ملحوظ عند قطاع ليس بالقليل من الليبيين، وظلت الأغلبية الحالمة على حالها، منقسمة بين متفائل ومتشائم، بين مؤمن بثمن التغيير وبين نادم.
تاورغا كانت ضحية لتصدير مثل هذه المكابيت، لكن المكبوت الفاعل فيما يخص مأساتها هو (العنصرية الكامنة) وما صاحبها من تصفية حساب لا تتعلق بما حدث إبان فبراير فقط لكن له جذوره التاريخية ورواسبه القديمة التي تنتظر الفرصة لتعلن عن نفسها بهذه الحدة.
ولعل قراءة إصدار المؤتمر الوطني للقرار رقم (7) بشأن اجتياح مدينة بن وليد، أو بالأحرى قبيلة ورفلة، يرجع لنفس الأسباب المتعلقة بتصفية الحسابات التاريخية القديمة، ويكمن الفارق في كون: غزو بن وليد ناتج عن تصفية حسابات ثأرية قديمة، وتهجير سكان تاورغا وتدمير مدينتهم ناتج في الأساس عن مشاعر العنصرية التي شحذتها بعض أحداث فبراير.
ما حدث ويحدث في تاورغا عنصري بامتياز، ذرائعه كثيرة وملتبسة، واستطاعت تيارات مغرقة في عنصريتها السيطرة بالسلاح على مدينة مصراتة وسوقها نحو هذا النزوع العنصري برضا البعض وبحياد البعض وباعتراض البعض، لكن السلاح وللأسف كان هو صاحب الكلمة الأولى .
من جانب آخر بالإمكان وضع الحرب الذي نشبت بين مصراتة والزنتان في إطار عملية قسورة في سياق آخر من العنصرية ، باعتبار الزنتان من أول المدن التي التحقت بحراك فبراير في الغرب ولم تؤذ مصراتة، بل كانت معها في نفس الخندق والمعاناة، وهذا السياق يتعلق بعنصرية أخرى تتمثل في ثنائية الحضر والبدو التي لم بعد لها ما يبررها في عالم تغير بالكامل، وكثير من التصريحات كانت تؤكد ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، تشبهها التصريحات التي ظهرت من شخصيات من مصراتة عن أهل برقة (رعاة الأغنام) والذين توجهت إليهم حملة عنصرية في ما يسمى معركة الشروق التابعة لعملية فجر ليبيا لكنها أخفقت.
ما يقال الآن عن طبيعة هذه الصراعات وعن مأساة تاورغا بكونه متعلق بما حدث بعد فبراير أو بجرائم أتباع النظام ليس كل الحقيقة، إن لم يكن أحيانا بعيدا عنها، لأن المكبوت العنصري يفعل فعله في هذه المرحلة ، مما سبق ذكره وصولا إلى المتاجرة بالمهاجرين غير القانونيين وما يتعرض له (الأفارقة السود) خصوصا من تعذيب وقتل وبيع في سوق النخاسة إلى الصراع بين بعض المدن وضواحيها ، إضافة إلى ما يروج في الشرق من مطالب بالانفصال تتحجج برهاب المركزية، تنطلق كلها من منبع عنصري واحد وإن اختلفت مستوياته ومدياته.
لابد أن نكون صرحاء مع أنفسنا : العنصرية مرض ولا يمكن أن نعالج المرض ونحن في حالة نكران له.
لابد أن نبحث في هذه الآفة، العنصرية، بكل أنواعها التي كانت إحدى المغذيات للصراع الليبي الليبي ، وهي آفة يحركها المتعصبون الذين استطاعوا أن يتحكموا في السلاح والمال بعد سقوط النظام الذي هو بدوره لعب على هذه المكابيت ليثبت أركانه.
عشنا وهما طويلا في ظل عبارة جذابة تقول “ليبيا نسيج واحد” وهي عبارة لا تخلو من الوهم الذي من الممكن تصديقه مع كثرة تكراره، وحتى إذا ما اعتبرنا أن هذا الوهم لا ينطبق على قطاع واسع متجانس من المجتمع، فإن من ينطبق عليهم هم الفاعلون في المشهد والعاملون بمثابرة على تغذية الفتن، بعكس المؤمنين بحقيقة هذا الشعار الذين يقضون جل وقتهم إما في الطوابير أو متفرجون على القنوات الفضائية المحلية التي كلها تتلاعب بهذه المكابيت وتصب الزيت على النار.
فشل النظام السابق الذي استلم دولة ناشئة توحدت بعد 10 سنوات من استقلالها، فشل في أن يخلق أي نوع من الانصهار الوطني حين تلاعب بالولاءات الاجتماعية الليبية وإرثها التناحري، وأعاد المجتمع إلى ما يشبه حالة ما قبل الدولة ، لأن الانصهار الوطني يتحقق بتوحيد المصالح وباستراتيجيات تربوية وثقافية ، وبالتنمية المكانية المستدامة ، وبدستور يضمن دولة القانون وحق المواطنة. لذلك ظلت عبارة النسيج الواحد غائمة ورومانتيكية أكثر منها واقعية .
إن من حاصروا مصراتة، أو سببوا لها ألما، مشكلون من جميع المدن والقرى الليبية، فلماذا تاورغا فقط تدفع الثمن الباهظ ، ويظل سكانها مشردون لمدة سبع سنوات؟ . لأن الأمر لو كان مجرد غيظ، فالغيظ كما يقال غدير يجف مع الوقت، لكن العنصرية تزيد مع الوقت ولا تنقص خصوصا حين تكون مركبا أساسيا من تكوين اللاوعي الجمعي الذي يورثه تلقائيا لجيل بعد جيل.
حين نعود إلى التاريخ القريب، تاريخ الفاشية الأولى التي بدأت بعد فترة وجيزة من مجيء الطليان سنجد أن ما يسمى النسيج الليبي المقسم أساسا زاد انقسامه. جزء انخرط بحماس مع القوى الغازية وجزء انضم للمقاومة وجزء هاجر وجزء ظل محايدا، وهي أجزاء مقسمة على المجتمع الليبي كله، في غربه وشرقه وجنوبه.
فعملت الفاشية على جلب مجندين ليبيين لها من الغرب الليبي إلى الشرق، ونقلت مجندين من الغرب والشرق إلى الحبشة، وبعثت مجندين من الحبشة إلى الصومال، ومن الصومال والحبشة إلى ليبيا، وهكذا اختلطت الأوراق، ولو توقفنا عند ذاك الأذى الشنيع الذي سببه الليبيون بعضهم لبعض بعد خروج الطليان لاشتعلت الحروب الأهلية دون توقف ولهُجرت مدن أو قبائل أو عشائر بكاملها، ولا ما جئنا بالاستقلال الذي جعلنا علمه ونشيده رمزين لانتفاضة فبراير .
لقد حدثني والدي وأقاربي الذين كانوا في معتقلات الفاشية عن أشد أنواع التعذيب والتنكيل الذي قام بها تجاههم مجندون ليبيون مع اٌلإيطاليين . مجندون من الغرب الليبي ومن الشرق والجنوب، ومن كل قبائل ومدن ليبيا بما فيها مصراتة نفسها، فهل كان من الممكن أن تؤخذ مصراتة أو أية مدينة أو قبيلة أخرى بجريرة هؤلاء الانتهازيين الذين تجاوزت قسوتهم على إخوانهم الليبيين قسوة المحتل .
بل أن الملك السنوسي الذي كان الجناح السياسي للمقاومة التي قادها عمر المختار ، اختار أول رئيس للوزراء، السيد: محمود المنتصر، من مصراتة، الذي ربطته بالإيطاليين علاقة وطيدة ليكون من أول المؤسسين للدولة الليبية الجديدة، ورغم اعتراض البعض ممن عاشوا في المعتقلات أو قاوموا مع عمر المختار، إلا أن الملك كان ينطلق بروحه التسامحية والعملية من كون علاقة المنتصر بالفاشية هي التي زودته بمهارات وكفاءة إدارية تجعله قادرا على قيادة هذه المرحلة، وفعلا كان المنتصر عند حسن الظن وأثبت قدراته ونزاهته.
استطاعت سلطة الملك الروحية أن تهدئ كثيراُ من الاحتقانات والأحقاد، وأن توقف الكثير من خطابات العنصرية التي كانت تسعى لتقسيم ليبيا في ذلك الوقت العصيب، حيث انتصر في النهاية المشروع الوطني الذي قادته النخب الوطنية، لكن ما يحدث الآن أن السفهاء هم من يقودون المرحلة، والعنصريون هم من في الواجهة ويملكون السلاح والمال والدعم الإقليمي .
ستظل مأساة تاورغا جرحا غائراً في الضمير الليبي، وعقبة أمام تقدم أي مسار للمصالحة الوطنية، وستظل جرس إنذار ينبه من عديد المكابيت السلبية التي مثل الألغام المنتشرة في هذا الوطن، قابلة للانفجار في أي وقت.