تاناروت الجمال: ضوء يقاوم الظلام
سالم العوكلي
حين افتتحنا جمعية بيت درنة الثقافي، في 11 يناير 1997 ، كنا نسعى لإبراز فضاء ثقافي جمالي يحرك المدينة، خصوصا بعد أن أُوقِفت جريدتا الأفريقي ودارنس بقرار من أمانة (وزارة) الثقافة، وبعد أن تحول مركزها الثقافي الوحيد إلى مقر للمثابة الثورية وفريق العمل الثوري، وركد النشاط المدرسي الثقافي والفني حين حلت محله مواد التربية العسكرية والثقافة السياسية، وأصبح البيت شعلة من النشاط، ندوات ومحاضرات ومعارض ومسرح وموسيقى ورسم، إضافة إلى صالون ثقافي أسبوعي للتدريب على فن الحوار، وكانت جهات كثيرة تابعة للدولة متضايقة من هذا النشاط، وحين كنت أُستدعَى كرئيس لهذه الجمعية إلى الأمن الداخلي، وكان وقتها الجو ملغما بالجماعات الإرهابية التي تغلغلت في ليبيا وفي درنة خصوصا، كنت أجد أمامي تهما عديدة: بالماسونية أو الحزبية أو الإلحاد أو المثلية وغيرها مما تمليه التقارير المضللة التي تصل لجهاز الأمن الداخلي ، وكنت اكتفي بقولي أن هذا البيت الثقافي يحاول أن يحصن الشباب بالثقافة والفكر والفن ويحميهم من الامتصاص الأعمى للفكر الهدام وثقافة الموت والانتحار، وكنت أقول للمحقق أنتم تعالجون ظاهرة الإرهاب بعد ظهورها ونحن عملنا وقائي منها، لأن غياب الثقافة والفكر والحوار يجعل هؤلاء الصبية مهيئين لامتصاص أي أفكار تشكل خطرا على التعايش والسلم الاجتماعي .
في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة تعرضنا لهجمة قوية من وزارة الثقافة وهيئة الصحافة ومكتب الاتصال باللجان الثورية في طرابلس المحتجين على أننا نقيم أنشطة ثقافية خارج إشرافهم ورقابتهم، باعتبارهم أوصياء على كل فعل أو نشاط ثقافي، غير أننا استطعنا أن ننتصر قانونيا لأننا استكملنا كل إجراءات الجمعية وفق ما يتطلبه قانون إنشاء الجمعيات ، وتحصنا إداريا وقانونيا دون أن نتخلى عن رؤانا المنفتحة للنشاط الذي يرسي ثقافة بديلة ويثير الأسئلة المسكوت عنها، وهو الأمر الذي كان يستفز مريدي الأيديولوجيا المهيمنة في ذلك الوقت .
كان القذافي ذو توجهات إسلامية متشددة وأكثر فعالية بحكم السلطة المطلقة من كل الجماعات التي أتت بعده، فهو جمد الدستور السابق لعدة سنوات ثم جاء بوثيقته الدستورية (سلطة الشعب) تحت عنوان “القرآن شريعة المجتمع”، وشن حربا على الصوفية وهدم العديد من زواياها ومن الأضرحة، ودعم المسلمين وحركاتهم في كل بقاع الأرض، وبنى آلاف المساجد في كل القارات، وطبع ملايين النسخ من المصحف ووزعها على مراكز ومساجد العالم، ومنح كل حافظ للقرآن شهادة ليسانس، ودعا إلى الحرب مرارا ضد الصليبية ، وأدخل الحدود الشرعية في قانون العقوبات، وملأ المكتبات بكتب السلفية بكل مذاهبها لأنها تدعو إلى طاعته وطاعة أولياء الأمر من كل الطغاة حتى وإن جاءوا للسلطة عبر سفك الدماء، ودعم بشكل منقطع النظير جمعية الدعوة الإسلامية التي أرسلت مبشريها إلى بقاع الأرض، وهو من أيد علنا هجوم القاعدة على الولايات المتحدة ودعم سرا الكثير من الجماعات الجهادية. لقد فعل ما لم يفعله أي مدع إسلامي آخر، ورغم ذلك نعرف جميعا نهايته السيئة، وذلك بسبب أنه لم يحترم شعبه ولم يحترم وجدان مجتمعه وإجماعه وطبيعته المتدينة وزايد عليه حتى في دينه، ولأنه حوَل البلد إلى حالة حداد دائم وفرغها من المرح والحياة والألوان، وأطلق اللجان الثورية تقتحم وتقفل كل مبادرة لنشاط ثقافي أو فني مستقل.
بعد فبراير تحول بيت درنة الثقافي إلى ما يشبه غرفة عمليات للحراك، ولكن لم يمض بضعة أسابيع حتى بدأت المضايقات من الجماعات المتشددة المنتمي معظمها لتنظيم القاعدة التي تحول بعضها فيما بعد إلى تنظيم داعش، فاتهمونا بالإلحاد وبالماسونية وبالمثلية وبنشر المسيحية .. إلخ من دستة التهم الجاهزة لكل وصفة فاشية، وحين أتيحت لي فرصة الحديث مع أحدهم وتحدث عن هذه التهم ، لم أجد ما أقول له سوى ذكر الآية الكريمة: “إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”.. (لاحظوا أني خاطبت رجل الأمن بلغته والقادم باسم الدين بلغته ولا أعرف إن كان هذا حنكة أو جبنا، وفي الأحوال جميعها كانت قناعتي الراسخة).
ولم تطل التهديدات كثيرا حتى أجتاح البيت بعض من المجموعات المتطرفة التي أحكمت قبضتها على درنة، ولأن سلاحنا الوحيد هو الجمال والثقافة وهم مدججون بترسانة أسلحة، استولوا على المقر وحولوه إلى جمعية اسمها (البلاغ) يديرها سوريون إرهابيون مهمتها أن تُصدِّر الجهاديين إلى سوريا، وأخذوا في استقطاب الصبيان و بعض النساء المنقبات باعتبار حاجات بعض المهاجرين منهم المقيمين في المقر، وتحول هذا المكان من فضاء استنارة إلى مكان ظلامي، من فضاء لثقافة الحياة إلى نفق لثقافة الموت، ومن مكان يعمل تحت الأضواء إلى مكان مغلق للفسق الذي كانوا يتهموننا به، والفسق هي الصفة التي أطلقها الله سبحانه وتعالي على من يأتي بتهمة أو نبأ دون أدلة أو تبيّن.
استشهدت بالآية وبهذا المعنى حتى أوضح أنه في الشريعة كما في القوانين الحديثة اتهام أي شخص أو مجموعة أو مؤسسة بتهم باطلة دون أدلة (تبيُّن) جريمة يعاقب عليها القانون ويحكم الشرع على مرتكبيها بالفسق والجهالة.
عندما أطلعت على الرسالة الموجهة من رئيس إدارة منظمة تجمع تاناروت للإبداع، الموجهة إلى رئيس هيئة الثقافة والمجتمع المدني، بتاريخ 14 نوفمبر 2020 ، وما تحويه من شكوى من مضايقات من قبل شرطة الآداب أو شرطة الأوقاف ، وطبيعة التهم الموجهة للشباب المحترمين ذي المؤهلات البارزة في منظمة تاناروت، مثل: الماسونية والمثلية والإلحاد والتبشير بالمسيحية، لم أستغرب ذلك لأنها حزمة اتهامات جاهزة لخسف كل مختلف أو مميز، استخدم بعضها اللجان الثورية واستخدمها فيما بعد تنظيم القاعدة وتنظيم داعش.
ومن جانب آخر تعجبت لأني اعتقدت أن هذا الذي عايشناه مع تنظيم القاعدة ثم مع داعش في درنة قد انتهى بفضل تضحيات الجيش العظيمة، كما لفت نظري في الرسالة تسمية (شرطة الأوقاف) وللمرة الأولى أسمع بها، واستغربت أيضا لأني أعرف أن المجتمع الليبي محترم ومتدين ويعرف الأصول وليس في حاجة لشرطة آداب و غيرها تعلمه الآداب والأخلاق، ولأني كنت أرغب أن اسمع (بشرطة زراعية تحمي غاباتنا وأشجارنا وأراضينا الزراعية المنتهكة من قبل قلة من المخربين، وشرطة كهرباء تحمي كوابل ومعدات الكهرباء من السرقة ومن البناء في مسارات الخطوط .. إلخ, وشرطة سياحية تحمي آثارنا وتراثنا وأماكننا السياحية التي انتُهِكت، وشرطة مرور تنظم هذا الزحام والسيارات المتجولة دون لوحات أو إجراءات سلامة، وشرطة لحماية المستهلك من الأغذية والأدوية منتهية الصلاحية.. إلخ) وليس شرطة اختصاصها أن تعلم الناس المحافظين بطبعهم الأخلاق والآداب، أو تضايق فضاءً إبداعيا يعمل تحت الضوء ويسهم كغيره من الفضاءات في حماية الشباب من الوقوع في أيدي القتلة من الإرهابيين.
مرارا دافعت عن الجيش (الوطني) ومعركته ضد الإرهاب وكان دائما خصومي في الرأي يستخدمون حجة المجموعات الداعمة ضدي باعتبارها وجها آخر للإرهاب، وكنت استمر في دفاعي، ولم أندم على كل ما كتبته، لأنهم، وهذا أقل ما يذكر، حرروا درنة من الإرهابيين الذين أثاروا الرعب فيها، يغتالون كل نبض فيها وحتى الخارجين من المساجد، ولأنهم أعادوا لمدينة الثقافة (درنة) المسرحَ والموسيقى والشعر والمرح، وخلصوها من كابوس الوصاية المنافقة التي أطبقت على تفاصيل حياتهم.
سندافع بما أوتينا عن الحياة والجمال ولن نسمح لأي وصي بأن يشكك في أخلاق هذا المجتمع وحبه للإبداع والكتب وكل الفنون التي تحاكي كل جمال خلقه الله في الأرض وفي الآفاق وفي أنفسنا.