بين طرابلس وفزان (1)
سالم الهمالي
(الشيخ جبريل محمد الظريف)
قبل عشرين عامًا؛ جمعتنا مشيئة الله وقدره حجاجًا لبيت الله الحرام، حينها كان الشيخ جبريل بمثابة مُطوف خاص بالمجموعة فهو على علم بتفاصيل الأحكام في الحج والعمرة نتيجة علومه وتعدد مرات الحج والعمرة خلال سنواته السبعين من عمره آنذاك، تربطنا به علاقة متميزة امتدت لعقودٍ من الزمن، يذكر كيف استقبلوا موكب العريس (جدي علي عبدالحفيظ بن زايد، توفي سنة ١٩٤٤ رحمه الله) القادم مِن تمنهنت في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، يصف بدقة ملابسهم وأغانيهم وكأنها حدثت قبل أيام.
مواليد سنة (١٩٣١)، حفظ القرآن عن والده وعمه الشيخ محمد بن حمودة الفاخري ببلدة سمنو، ورافق قافلة لقبيلة القذاذفة سنة (١٩٤٧) بعد ان طلبوا من عمه الشيخ محمد بن حمودة أن يساعدهم بمن يعلم أبناءهم ويحفظهم القرآن، فأشار عليهم بالشيخ جبريل، خصوصًا أن السيد محمد بومنيار تزوج من أمه (عائشة عمر الجقر) بعد وفاة والده. استغرقت رحلتهم إلى ناحية سرت أحد عشر يومًا على الابل، بعد وصولهم بنوا له بيت صغير في جوارهم، ليبدأ مهمته في تحفيظ أولادهم القرآن الكريم. يذكر من طلبته (بوحجيل، عبدالسلام، بوزتاية ، معمر، الساعدي، عبدالحميد)، أكثرهم فطنة وسرعة في الحفظ هو معمر محمد بومنيار.
من الطرائف التي يذكرها الشيخ جبريل؛ أنه ذات يوم تغير جدول طعامه بدون سبب يعرفه، إذ كان كل بيت ملتزم بإعداد طعام الشيخ بالتناوب يوميًا، في ذاك اليوم أعدت الحاجة عائشة بالنيران (رحمها الله) الوجبة، ولتخوفه منها بسبب أن أمه تزوجت زوجها وما قد ينتج عن ذلك من غيرة، توهم ان في الطعام “سم”، فتفتق ذهنه عن حيلة يختبر بها الطعام، فنادي: معمر .. معمر .. تعال كول معاي!!
قفز الصبي ذو الأعوام السبعة (تقريبًا) آنذاك أطناب البيت ثم جثا على ركبتيه ومد يده للطعام ثم وضعها في فمه، دون أن تنهره او توقفه أمه، هنا أمسك بذراعه وقال له: ياسرك!!… يروي الشيخ جبريل الحادثة، ويستغفر الله في كل مرة من ظنه الذي كان في غير محله.
أمضى أكثر من عامٍ معهم في نجوعهم ناحية سرت، وجد فيها معاملة حسنةً وتقديرًا كبيرًا.
كما يروي الشيخ جبريل قصة اخرى ذات معني:
في نهاية الأربعينات في القرن الماضي كان هناك عام “جدب” أي قلة مطر وزرع، نفقت على إثره الحيوانات وجاع الناس في الساحل وبادية سرت، اتجه من عاش منهم إلى الجنوب حيث الماء والتمر، واضطر من كان يملك قطعانًا بالمئات وربما الآلاف لخدمة أهل الواحات في تلقيط التمر وغيره … ذات يوم يتذكره، شهد فتاة جميلة ابنة أحد شيوخ القذاذفة ممن يعرفهم خلال إقامته معهم لتحفيظ القرآن، وهي منكسرة الخاطر بعد يوم من العمل الشاق في حطايا سمنو تلقط التمر، عندما دخلت إلى بيتهم وجدت أمه على الرحى، فألقت ما بيدها (قفة التمر) ومدتها إلى شظاظ الرحى تشاركها الرحى … هذا المشهد يبدو أنه أثر في أمه وهي التي تعرف كيف كانت معيشة بيت الشيخ فأنشدت هذا البيت:
بعد الشريف الضافي حطو عليه حوية … وبعد المكيل الوافي تم العشاء نصفيه
التحق الشيخ جبريل بالجيش الليبي سنة (١٩٥٤)، ويحمل رقم (١٠٥٥)، ليخدم في سلاح المخابرة بعد نجاحه في دورات الاتصالات والشفرة. بعد استقالته؛ امتهن التجارة والعمل الخاص منذ بداية السبعينيات حتى مُنع من مزاولتها بقرار حكومي تطبيقًا لمفاهيم اشتراكية.
يوم زيارته؛ وجدته بالمسجد يقرأ القرآن وينتظر في صلاة الظهر، توجهنا بعدها إلى بيته حيث سرد علينا مشاهداته يوم دخل الفرنسيون إلى سمنو في منتصف الأربعينات، وزيارة الملكة إليزابيث الثانية إلى مدينة طبرق في أبريل سنة (١٩٥٤) حين كان يملك ويعمل في مقهى بالمدينة. قصصٌ كثيرةٌ ورواياتٌ لمواقف عاصرها تحتاج إلى فصل كامل وليس مقال، سأذكرها إن شاء الله في قابل الأيام.
إمام جمعة بمسجد سمنو العتيق لسنوات طويلة ومحفظ للقرآن، ينصح بالحسنى والكلمة الطيبة.
بارك الله له في عمره وعمله وأهله وكل أمره …
——————————————
حرصًا مني في توثيق رواية الشيخ جبريل، سمعتها منه ثلاث مرات على مدة 15 عامًا في أماكن مختلفة، لم يتغير فيها شيء من الرواية، وهي معروفةٌ لكل أهل البوانيس.