بين سلمان.. وبزيك “النزيك”
مثلما جُبلت النفس الإنسانية على الخير المطلق، يبدو أنّ بعض النفوس قد جبلت كذلك على الشر المطلق.. وقد أثار دهشتي مثلان لليبييْن يعيشان في العالم الغربي، أحدهما يمنحُ الحياة ويسبغ العطف والمحبة بلا حدود على المحتاجين الغرباء عنه، والآخر يدمّر الفرح ويقتلُ نفوسا شابة بريئة لم يؤذوه في شيء.
إنها بحق تعبير عن محنة الإنسان الليبي الذي ابتُلي بها منذ نحو خمسة عقود عندما تحوّل من الدعة والطمأنينة التي كان ينعم بهما، بفعل انقلاب عسكري أهوج اتخذ من العنف سبيلا لإرساء دعائم حكمه، وقام في سبيل ذلك بكل ما يمكن من تجهيل وتدمير لكافة البنى ومن أهمها منظومة الأخلاق العامة التي كانت تستوطن برسوخ بين الليبيين، فتربى النشءُ بالضرورة في أجواءٍ غير طبيعية جعلتهم غير طبيعيين. وحتى عندما تحقق حلمُ الليبيين في التخلص من الاستبداد وتجدّدَ أملهم في بناء الدولة العصرية الآمنة، تبيّن أن تأثيرات ظلال العنف والجهل والخوف التي سادت طوال أربعة عقود، هي أقوى بكثير من كل الأماني الطيبة والأحلام البسيطة المشروعة…
لقد فُجعتُ كما غيري من الليبيين بالفعل الشائن الذي قام به سلمان العبيدي في مانشستر، من قتل للأبرياء باسم الدين، وهو الذي لا يكاد يعرف شيئا عن فكرة ومفهوم الدين بحكم سنه الصغير. وبقدر حزننا على إزهاق أرواح بريئة، كان غضبنا أيضا من تشويه إضافي لسمعة الليبيين التي طالها الكثيرُ من السوء طوال هذه السبع العجاف التي أعقبت انتفاضة فبراير.
لكن كما فجعتُ في سلمان فقد فوجئت بـ “بزيك” المواطن الليبي (الليبي كما أحب أن أعرفه) الذي احتضن أكثر من ثمانين طفلا أميركيا مشرفا على الموت، تخلى عنهم حتى ذووهم، لِما في رعايتهم من مشقة يعجز عنها حتى الوالدان. حقا إن تبني أي طفل هي مهمة شاقة تتطلب التخلي عن الأنانية وإبداء المحبة والإخلاص والتضحية بكل شيء، لكن أن تحتضن هذا العدد من الأطفال الغرباء لمجرد القيام بعمل إنساني أنفَ الآخرون من القيام به، لهو بحق أمرٌ عظيم.
الليبي “محمد بزيك” المقيم في الولايات المتحدة، تعرض لمحنةٍ عندما مات طفله في السادسة، ويعاني الثاني من مرض التقزم والهشاشة، وفقد زوجته التي كانت تعينه على المشقّة.. لكن إجابتَه التلقائية الإنسانية عن سؤال حول مقدرته على رعاية هؤلاء الأطفال الغرباء وهو يعرفُ أنهم غالبا سيموتون، هي الأكثرُ عجبا، حيث يقول : السر يكمن في أنه ” من الضروري أن تبدي لهم محبة وكأنهم أطفالك. كنت أعرف أنهم مرضى، وأعرف أنهم سيموتون. وأقوم بأفضل ما يمكنني كإنسان، وأترك الباقي على الله.”
كلنا أمل أن يقدم “بزيك النزيك” صورة مغايرةً عن الصورة النمطية للشخصيةِ الليبية المتهمة في العالم بالعنف والإرهاب، كما مثّلها التعس “سلمان“.