بناء الدولة في ليبيا… بداية لم تبدأ
عبد الرحمن شلقم
عبرت ليبيا عصوراً من المعاناة والصراع؛ من احتلال إلى آخر. استعمار تعددت ألوانه وأسماؤه. تجربتها السياسية كانت قاصرة إلى حد بعيد عن جارتيها الأقرب. في مصر أسس محمد علي الكبير قواعد دولة مطلع القرن التاسع عشر. سبقه الحسين بن علي في تونس، حيث أسس مملكة. تطورت الحياة السياسية في البلاد بسرعة كبيرة في عهود البايات الذين حكموا البلاد، كان تتويجها بصدور عهد الأمان الذي يعتبر أول دستور في البلاد العربية. كانت الشخصية الليبية الحاكمة التي تهيأت لها الظروف أن تؤسس لدولة هو يوسف القرمانلي، حيث استقل عن المركز العثماني وامتلك قوة بحرية ضاربة. النقلة السياسية في تونس ومصر، حفَّزت شخصيات ليبية للتفكير في تحريك الواقع الأولجاركي نحو بناء دولة في ليبيا.
حسونة الدغيس، شخصية قريبة من الأسرة القرمانلية الحاكمة عاش في بعض الدول الأوروبية، أتقن عدداً من اللغات، تواصل مع المثقفين الأوروبيين وتشبَّع بفكر التحديث. التقى بالفيلسوف البريطاني جيرمي بنتام، وتمخض اللقاء عن مشروع دستور أعده الفيلسوف، واتفقا على تقديمه للباشا يوسف القرمانلي لتبنيه. لم يلق المشروع قبولاً من يوسف، وخطط الدغيس للهجوم على طرابلس بقوات تنطلق من الجبل الغربي للاستيلاء على الحكم وفرض الدستور. فشلت المحاولة. وتقدم جيرمي بنتام بمشروع دستوره إلى ساسة يونانيين وتمكنوا من تسويقه في بلادهم. ضاعت على ليبيا فرصة تاريخية. انتهت سيطرة القرمانليين وعاد الأتراك إلى ليبيا وحكموها من الآستانة.
أصبحت مصر تحت الوصاية البريطانية وتونس تحت الفرنسية. الدولتان الوصيّتان بهما حكم ديمقراطي عبر أحزاب وبرلمان. ليبيا احتلتها إيطاليا التي وقعت تحت حكم الفاشيست. منعوا الأحزاب في إيطاليا وقمعوا الرأي المعارض، نكَّل موسوليني بالليبيين قتلاً وتشريداً وفي معسكرات الاعتقال. الاستعمار الفرنسي فتح المدارس في تونس في حين منع الفاشيست التعليم في ليبيا.
بعد الاستقلال سنة 1951، قام في ليبيا نظام ملكي اتحادي، نصت المادة الثانية من الدستور على أن «ليبيا دولة ملكية وراثية، ونظامها نيابي». النظام النيابي يعني أن البرلمان هو من يشكل الحكومة. الحزب الحائز الأغلبية في البرلمان يكلف الملك زعيمه أو من يرشحه بتشكيل الحكومة، وإذا لم يتحصل حزب واحد على أغلبية، يتكون ائتلاف من الأحزاب أو الكتل التي تتفق على برنامج موحد تعمل لتنفيذه.
منذ أول حكومة بعد الاستقلال تمَّ تجاهل هذه المادة من الدستور التي تحدد نظام الحكم بالنيابي.
منذ اللبنة الأولى في بناء الدولة الملكية حدث الخلل. لم تنفذ الخريطة المعمارية – الدستور – على أرض السياسة. الملك يكلف شخصاً تشكيل الحكومة وفقاً لتقديرات ذاتية مبعثها اجتماعي أو توازن محسوب بمقاييس الولاء السياسي لشخص الملك.
لم يحكم الملك بشكل مباشر ويومي، ولم يكن للحكومة ورئيسها صلاحيات الحكم الكامل. هكذا أُسست الدولة ولم تُمأسس. عيّن الملك شقيقه الرضا ولياً للعهد، لكنه رحل عن الحياة بعد وقت قصير. سنة 1954 كانت حلقة الزمن التي شكلت الدوائر القادمة في سلسلة مسيرة البلاد. يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) من تلك السنة أطلق محيي الدين بن صفي الدين السنوسي النار على إبراهيم الشلحي، ناظر الخاصة الملكية، وأرداه قتيلاً. الأول من دمه ولحمه، حفيد أحمد الشريف وابن أخي الملكة، والقتيل التوأم الروحي للملك. أصيب الملك إدريس بصدمة هزَّت كيانه، زهد في الدنيا وفي الحكم. غضب من كل عائلته السنوسية. فصلهم جميعاً من الوظائف الصغيرة والكبيرة ونفاهم إلى الجبل الغربي. ذهب للإقامة بمنفاه الاختياري بطبرق. عيّن البوصيري ابن إبراهيم الشلحي ناظراً للخاصة الملكية محل أبيه.
مقتل إبراهيم الشلحي رسم مبكراً خرائط ليبيا القادمة.
كان إدريس المهدي السنوسي هو الدبق اللازب الذي جمع أطراف ليبيا أرضاً ومجتمعاً. اعتبره رؤوس القوم أباً لهم. إبراهيم الشلحي، ساهم في تشكيل الشخصية «السياسية» لإدريس السنوسي، فقد طلب من ابن عمه أحمد الشريف أن يدله على شخص ثقة يكون ساعده الأيمن في حياته الشخصية والعامة، فقدم له الشلحي. أصبح الرجلان روحاً واحدة في جسدين. يوم سقوط الشلحي قتيلاً على يد محيي الدين السنوسي ابن عم الملك مات معه جزء من إدريس. تحول الملك إلى شخصية شكسبيرية حزينة. هو القتيل والقاتل. وكأنه يحمل في أعماقه قول جليلة بنت مرَّة وهي ترثي زوجها كليباً حين
قتله أخوها جساس:
فِعلُ جساس على ضني به
قاطع ظهري ومدنٍ أجلي
إنني قاتلة مقتولة
فلعلَّ الله أن يرتاح لي
ولم يغب عن طيف حياته ما قاله أبو الطيب المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفُهُ
فمن المطالبُ والقتيلُ القاتِلُ
فقد الملك الأول للدولة الجديدة جزءاً من عقله السياسي بغياب إبراهيم الشلحي الذي كان له التأثير الأكبر في قراراته السياسية؛ فقد حرض الملك على إزاحة أول رئيس للوزراء بعد الاستقلال، محمود المنتصر بسبب اعتقاد الشلحي أن المنتصر له ميل إلى فرع أحمد الشريف السنوسي. كانت سنة 1954 بداية الاختبار، بل حلقة النار في مسيرة الدولة الجديدة. المرسوم الملكي بحل المجلس التشريعي لولاية طرابلس كان محطة ملتهبة، السؤال: ما هي صلاحيات الملك حسب الدستور؟ كانت القاعدة أن الملك، مصون وغير مسؤول. حكمت دائرة القضاء الإداري والدستوري بالمحكمة العليا بأن حل المجلس التشريعي لولاية طرابلس بأمر ملكي هو عمل غير دستوري، على أساس أن الملك غير مسؤول، وأن المسؤول في هذا الموضوع هو رئيس الوزراء الاتحادي، وأن قرار الحل الصحيح، يجب أن يكون بمرسوم ملكي موقع من رئيس الوزراء والملك معاً. أظهر مسار الأحداث في تلك السنة وبعدها هنات واضحة في تنفيذ الدستور، بل وفي هوية النظام السياسي للبلاد، هل هو ملكي مطلق أم نظام برلماني؟
الحلقة التي تستدعي الوقوف عندها، الفكرة التي بدأت تسيطر على الملك إدريس تحويل البلاد إلى النظام الجمهوري، وقام بخطوات عملية في هذا الاتجاه.
العلاقة بين الحكومة الاتحادية وولاة الأقاليم الثلاثة، أضافت تعقيداً سياسيا وإدارياً إلى المشهد الوطني العام.
الولاة يرفضون التبعية والمحاسبة من طرف الحكومة الاتحادية بحجة أنهم معينون من الملك مباشرة، ولا يخضعون للحكومة، وكان الحل الوسط هو تعيين رؤساء مجالس تنفيذية بالولايات يتبعون الحكومة الاتحادية.
من يحكم؟ الملك الذي رحل إلى شبه منفى اختياري بطبرق أم الحكومة الاتحادية؟ الملك زاهد في السلطة متذبذب بين تحويل البلاد إلى النظام الجمهوري، والاستقالة التي قدمها فيما بعد أكثر من مرة. الحكومات التي كانت أعمارها قصيرة وقد أقيلت أغلبها بضغط من عائلة الشلحي لأسباب لا يمكن تبريرها أو قبولها.
غدت السلطة قوة تائهة بين أبناء الشلحي الذين احتكروا منصب ناظر الخاصة الملكية. ووزارات قصيرة العمر تتكرر فيها الوجوه. الديوان الملكي وهو حلقة يتوقف تأثيرها على قرب من يقودها إلى الملك. البرلمان الذي شابته بقع التزوير وغياب الأحزاب والكتل فيه ودوره في تشكيل الحكومة. ولاة الأقاليم وعلاقتهم المضطربة مع حكومة المركز.
كانت البداية لتأسيس الدولة بدايات، لم تغب عنها الاجتهادات التي لم تبعد عنها لعبة الصراع على السلطة ما ظهر منها وما لم يظهر.