بريطانيا حائرة وضائعة
بكر عويضة
يمكن القول إن بريطانيا تمر بنوع من الحيرة والضياع معاً. إنما في ضوء تقرير «صنداي تايمز» الأحد الماضي، يمكن أيضاً إضافة حالة ذعر مرشحة لأن تصل إلى درجة الهلع، ما لم يجر اتخاذ إجراء من شأنه إعادة قليل اطمئنان إلى النفوس. معروف أن ما أوصل دولة في مثل وزن بريطانيا، سياسياً ثم اقتصادياً، إلى هذا التخبط الكارثي، هو الانجرار إلى مستنقع يحمل اسم «بريكست»، ثم الغرق فيما تبع التورط، أساساً، باستفتاء 2016 بشأن البقاء أو الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي. لو أن رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون، لم يخضع لأهواء عدد قليل بين أعضاء حزب المحافظين في مجلس العموم، هم كذلك في الأصل، يعادون استمرار عضوية بلدهم، على الرغم من أهميتها، في الاتحاد الأوروبي، لما كان ألزم نفسه، أصلاً، بوضع بند ذلك الاستفتاء، ضمن برنامج الحزب في انتخابات 2015 البرلمانية، وهو ما بدا، آنذاك، نوعاً من التخوف غير المفهوم، في مواجهة ضوضاء نايغل فاراج، السياسي خفيف الوزن، وحزبه «يوكيب»، الضعيف شعبياً، بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لكن ذلك كله بدا، أيضاً، كما لو أنه قدرٌ كان مقدراً لهذا البلد أن يمر به. المُخجل، بريطانياً، أن مجتمعاً كهذا تعود جذوره الديمقراطية إلى ما يزيد على ثمانية قرون، فشل ساسته طوال السنوات الثلاث الماضية في التوصل إلى اتفاق حول كيفية تطبيق ما انتهى إليه استفتاء «بريكست» -52% مع الخروج، مقابل 48% مع البقاء- الأمر الذي أوصل البريطانيين إلى المأزق الحالي. مرة ثانية، وفق تقدير كثيرين، اتفق معهم، يتحمل ديفيد كاميرون النصيب الأهم من المسؤولية. حقاً، كان بوسع كاميرون الإبحار بسفينة بلده بين عواصف التفاوض مع بروكسل حول إنهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، بأقل قدر من الخسائر، وربما بلا أي ضرر يلحق بالدور البريطاني أوروبياً، ومن ثم عالمياً.
صحيح أن ديفيد كاميرون خاض معركة الاستفتاء، كزعيم للمحافظين ورئيس للحكومة، على أساس حض البريطانيين على التصويت لصالح البقاء، إنما انتصار الفريق المعارض بنسبة لم تتجاوز 4%، لم يكن سبباً يوجب الاستقالة، بل على النقيض من ذلك، كان الواجب الوطني يفرض على كاميرون تقبّل نتائج الاستفتاء بشجاعة، وقد فعل، إنما بلا اضطرار إلى المغادرة، بغرض استمرار تحمّل مسؤولية التنفيذ، من منطلق أنه رئيس حكومة تقود البريطانيين جميعاً، ومسؤوليتها الأساس حماية مصالحهم أجمعين، بصرف النظر عن اختلاف انتماءاتهم السياسية. مع احترام رأي مَن حاجج بأن المنطق الديمقراطي هو الذي حتّم خروج كاميرون، يمكن القول، ضمن سياق ضمان انسجام الممارسة الديمقراطية مع صون مصالح البلد، إن بقاء كاميرون على رأس الحكم، من منطلق أنه رقم أساس في فريق البقاء داخل الاتحاد الأوروبي، كان من شأنه إرغام متطرفي الفريق ذاته على الالتزام بنتائج الاستفتاء، وبالتالي عدم تعمّد وضع عصيّ العرقلة على طريق مسيرة التطبيق.
تيريزا ماي لم تكن مؤهلة لدور تاريخي في مثل هذا الحجم. هي أيضاً من فريق إبقاء بلدها في الاتحاد الأوروبي، لكنها، رغم سنوات خبرتها في مجلس العموم، وفي مناصب وزارية عدة حملت حقائبها، وجدت نفسها، فجأة وبلا مقدمات، تتسلم منصب رئاسة الحكومة في وقت صعب، ثم إن أي رئيس وزراء في هذا البلد يجب أن يظل متنبهاً، قبل أي شيء آخر، لما سوف يواجه من متاعب تتمثل في اعتراضات، أو مشاكسات، وربما مؤامرات داخل حزبه، سواء كان الحكم للمحافظين، أو بأيدي خصومهم العمال.
تيريزا ماي ليست من نسيج يمكنه أن يغزل قماشة حكومة تمسك بها سيدة «داوننغ ستريت» بحزم، لكنها تدير شؤونها بحكمة، وتحسم أمرها، إذا تطلب الأمر، بقبضة من حديد. باختصار، لم تكن مارغريت ثاتشر. من هنا بدأ المأزق، ولهذا وصل إلى وصول بوريس جونسون لرئاسة الحكومة.
تقرير «صنداي تايمز» الأحد الماضي، المُحذّر من عواقب بالغة السوء سوف تطال توفر سلع وأدوية وغذاء في الأسواق البريطانية كافة في حال أصر بوريس جونسون على تنفيذ إنهاء عضوية الاتحاد الأوروبي، حتى بلا اتفاق مع بروكسل، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، جرى تسريبه إلى الصحيفة من ملفات الحكومة، ولذا أثار هلع وذعر الناس. واضح أن بريطانيا تعيش بالفعل حالة حيرة وضياع خطيرة. شكراً، ديفيد كاميرون، إنما بلا أي تقدير لما تسبب به التزام ديمقراطي، من جانبك، لم يكن ضرورياً.