بايدن يواجه بوتين بـ«الأناكوندا»
جمال الكشكي
لم يستأذن في الدخول، ولم يستطع أحد تأجيله لحظة واحدة، ولم تتمكن أعتى جيوش العالم من إيقاف عقارب ساعته. العام الجديد جاء حاملاً مسؤوليات كبرى، في عهدته أحداث يشهدها العالم قد تقود إلى حروب ساخنة، بل أكثر شراسة.
دفتر أحوال العالم مليء بالتحالفات غير التقليدية، زاخر بسباق التسليح الذي يتجاوز كل الحدود المعروفة، دول عظمى ليست لديها رفاهية التعارف على هوية العام الجديد، بل إنها سبقته بوضع خطوط فاصلة لحجز مقاعد الصفوف الأولى في هرم قيادة العالم.
واشنطن تواجه بكين عبر موسكو. أوكرانيا لعبة الشطرنج الكبرى. في التاريخ قد يلجأ القادة إلى سحب أوراق من الملفات القديمة لاستخدامها في معركة مستقبلية. المناورة بين واشنطن وموسكو قد تقود إلى بداية أزمة، صورة طبق الأصل، من أزمة الصواريخ الكوبية. استدعاء الحكمة في إدارة المشهد الحالي خطوة إجبارية لا تقبل القسمة على وجهات النظر.
فلاديمير بوتين طرح شروطه بشأن الضمانات الأمنية لاستقرار بلاد القيصر، ابن الـ«كي جي بي» وضع خطوطه الحمراء أمام بايدن و«الناتو» والدول الغربية، لم يتوعد لكنه أظهر العين الحمراء. جو بايدن الخارج لتوه من أفغانستان ليست لديه رفاهية المغامرة، القيصر يستثمر هذه النقطة جيداً، أزمات البيت الأبيض لها أولوية في حسابات واشنطن.
شيخ الحزب الديمقراطي يواجه مشاكل في الشعبية التي تتراجع سريعاً. هو مشغول الآن بإنقاذ بلاده من الانهيارات الاقتصادية، والصحية، وانتشار السلاح في أيدي الأميركيين، واتساع رقعة الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين، الشواهد تقول إن أداء البيت الأبيض جاء عكس توقعات الناخب الأميركي عام 2020.
موسكو وبكين تقرآن جيداً كل هذه الظروف التي تحاصر واشنطن. دهاء بايدن لم ينصفه في التفرقة بين الدب الروسي والتنين الصيني، بل إنه نجح بامتياز في أن يكون سبباً في إقامة حلف روسي – صيني غير معلن ضد الولايات المتحدة، فقد وضع الاثنين في سلة واحدة، عندما أعلن البيت الأبيض في مارس (آذار) الماضي الدليل المبدئي لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي، واعتبر فيها أن روسيا والصين هما المنافستان الاستراتيجيتان للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وهذا يعني أن كل الموارد والجهود الأميركية السياسية والاقتصادية والعسكرية، سيتم توجيهها ضد روسيا والصين. هذه واحدة، أما الثانية فتتعلق باستبعاد الرئيس الأميركي بايدن للرئيسين الصيني والروسي من المشاركة في «قمة الديمقراطية»، التي استضافت واشنطن فيها نحو مائة دولة، يترافق مع ذلك تحرك ثالث يتمثل في حشد بايدن لما يسميه «تحالف القيم» ضد روسيا والصين، وهو ما شهدناه في جميع تحركات الرئيس الأميركي عبر حضوره لقمة الدول السبع الصناعية الكبرى، واجتماع حلف «الناتو»، والقمة الأوروبية – الأميركية، هذا بالإضافة إلى السعي الأميركي الحثيث لتدشين وتأسيس تحالفات على غرار تحالف «الأوكوس»، الذي يضم الولايات المتحدة، وأستراليا، والمملكة المتحدة، وتحالف «الكواد»، الذي يضم بالإضافة إلى أميركا كلاً من الهند واليابان وأستراليا، وتحالف «العيون الخمس»، الذي يضم مع أميركا كلاً من بريطانيا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا.
كل هذه الشواهد تقول إننا أمام عالم ينقسم إلى قوتين متصارعتين على غرار ما كان في الحرب الباردة. الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون ضد روسيا والصين، معسكران واضحان، التصعيد مستمر وقابل للاشتعال في أي لحظة.
واشنطن لن تتخيل أن أحداً غيرها يجلس على مقعد قيادة العالم، بكين تزحف بقوة، روسيا لديها فرصة استعادة الماضي، التقارب بين بكين وموسكو يضاعف قوة مواجهة واشنطن، الاستجابة الغربية لنداء أوكرانيا لن يكون مقبولاً لدى الكرملين، تمدد «الناتو» شرقاً لضم جورجيا وأوكرانيا، اعتداء صارخ على خريطة النفوذ الروسي.
صافرة «دونباس» جنوب شرقي أوكرانيا، هي ساعة الصفر التي ستكون خطراً على الجميع، كل الأطراف تحشد لحالة تعبئة. ما يدور في الكواليس أكبر بكثير مما يكشفه العلن، كل يتربص بالآخر، الاتصالات الهاتفية بين بايدن وبوتين لم تكشف عما يدور داخل الصدور، دبلوماسية «الخطوط المفتوحة» لم تمنع سباق الاستعداد، الثقة غير موجودة، الانفجار قد يحدث في أي وقت.
ربما يتساءل البعض ماذا تستفيد الولايات المتحدة من حالة التأزيم العام مع روسيا، سواء في الملف الأوكراني أم غيره؟
في الحقيقة أرى أن الولايات المتحدة تتعامل مع روسيا وفق نظرية «الأناكوندا»، وهي نظرية تقوم على خنق الضحية، وليس القضاء عليها، وهو ما تم استخدامه لأول مرة في الحرب الأهلية الأميركية، وهذه النظرية تعتمد على تشكيل ما يسمى «حلقة النار»، حول الأراضي الروسية، فقد شهدنا خروج أميركا وروسيا من اتفاقيات «السماوات المفتوحة» العام الماضي، والانسحاب من اتفاقية منع نشر وإنتاج الصواريخ القصيرة والمتوسطة التي تحمل رؤوساً نووية في أوروبا، وهذا ما يتيح للولايات المتحدة القيام بنشر هذه الصواريخ بالقرب من الأراضي الروسية، كمحاولة لتطويق الجغرافيا الروسية، وتهديد استقرارها.
الكرملين يدرك جيداً هذه المخاطر، ويتحرك وفق محددات الحفاظ على الأمن القومي الروسي، وضع خطوطه الحمراء التي تمثلت في عدم انضمام جورجيا وأوكرانيا أو أي جمهورية سوفياتية سابقة، إلى الحلف الأطلسي.
واشنطن وموسكو على موعد للقاء وجهاً لوجه الأيام القليلة المقبلة، إما التفاوض بحنكة وحكمة وذكاء، وإما المواجهة.
سيناريوهات الصراع الأميركي – الروسي في أوكرانيا قد تأخذ مسارين لا ثالث لهما؛ فإما حرب محدودة تقتصر على حدود دونباس، ويمكن احتواؤها والسيطرة عليها، وإما غزو روسي كامل لأوكرانيا، وهذا المسار من شأنه توسيع دائرة الحرب في أوروبا، وربما يعيدنا إلى أجواء الحرب العالميتين الأولى والثانية، سيما أن للطرفين حلفاء وكلٌ له مصالحه.
إذن، وسط كل هذه المعطيات والمخاوف، فإن الواقع يتطلب استخدام لغة الحكمة والحلول الوسط، سيما أن وصول الطرفين إلى طريق مسدود سيلقى بآثاره السلبية على العالم أجمع.