بالعز مكتوب يا رمل الجنوب
سالم العوكلي
سبق أن ذكرت في أكثر من مكان أن استمرار مقاومة الاحتلال الإيطالي لفترة أطول في المنطقة الشرقية، وفي الجبل الأخضر خصوصا، لا يرجع لأسباب جهوية أو عرقية أو وطنية، ولكن لأسباب مختلفة؛ تاريخية تتعلق بالنفوذ القوي للحركة السنوسية في هذا المنطقة على حساب سلطة الإمبراطورية العثمانية، وهي حركة استطاعت بهالتها الروحية أن تفض المنازعات القبلية في المنطقة عبر مواثيق مصالحة حاسمة، ما ترتب عنه واقع اجتماعي متجانس شكّل الحاضنة الاجتماعية الشاسعة للمقاومة ورمزها المختار الذي كان يقودها تحت الرعاية السنوسية، وأسباب جغرافية تتعلق بتضاريس الجبل الأخضر وأحراشه التي حمت رجال المقاومة من الآلة العسكرية الفتاكة للجيش الإيطالي وأطالت مدى الحرب، غير أن العامل الحاسم كان التفاف القبائل في المنطقة حول هذه المقاومة ما شكل دعما ماديا ومعنويا لها.
وخلال هذه الفترة الطويلة من مقاومة الاحتلال ظهرت أصوات ليبية في العاصمة طرابلس المسيطر عليها من قبل السلطة الفاشية بتصريحات ضد (التصعيد العسكري الذي يقوده عمر المختار) وأُرسلت الوساطات التي تطلب من المختار ورجاله التسليم بالأمر الواقع لأن لا قِبَلَ لهم بمحاربة جيوش إيطاليا الجرارة . غير أن ما غفل عنه هؤلاء العقلانيون أن مقاومة الاحتلال في أي مكان وزمان غريزة بشرية طبيعية، ولا تخضع للحسابات أو موازنة القوى ولا للمنطق العسكري. فأي تهديد للوطن مهما كان نوعه يستلزم مقاومة من أبناء هذا الوطن ودون التفكير في العواقب لأنها مسألة شرف تاريخي لا يمكن الجدال حيالها.
تذكرني تلك التصريحات الملوثة بمصالح شخصية مع المحتل ببيانات المجلس الرئاسي التي تنتقد التصعيد العسكري في الجنوب الآن، وكأن الحرب على الجماعات الإرهابية والإجرامية التي استباحت جنوبنا حربا بين أطراف عسكرية ليبية قابلة للجدال أو مطالب التهدئة ، فالغريزة نفسها التي جعلت أجدادنا وآباءنا يتصدون للفاشية الإيطالية هي التي تحرك هؤلاء الشبان نحو الجنوب المختطف من ليبيا منذ 7 سنوات، والذي أصبح ملعبا لجماعات دول الجوار المعارضة، ودربا مفتوحا لتهريب البشر والمخدرات والوقود ولخطف المواطنين مقابل فدية.
وفي الحالتين فاشية موسيليني قبل قرن، واليمين الإيطالي الشعبوي الحاكم الآن، هما من يمليان مثل هذه التصريحات على أتباعهم ممن قايضوا الوطن بصفقات الزفت ومصالح الليبيين بمصالحهم المرتبطة بالغزاة من كل صوب.
طرابلس مختطفة مثلما كانت قبل قرن، والعملاء هم أنفسهم من يحكمون العاصمة التي تعني كل الليبيين، والمجلس الرئاسي ومجلس الدولة الاستشاري يعيشون في طرابلس تحت حماية الميليشيات الخارجة عن القانون، وهذه الميليشيات يشكل لها الجنوب نهرا من الأموال المتدفقة دون حساب، للدرجة التي لا يأبهون لحقول النفط حين تقفل، ما دامت الأموال تتدفق من الجنوب عبر تجارة البشر والمخدرات والوقود المدعوم المهرب، لذلك المتضرر الأكبر من تحرير الجيش للجنوب هم سماسرة الفوضى وغياب السيادة، ولا بد لهم أن يكونوا لسان هذه الجماعات الناطق الذي ينتقد التصعيد العسكري في الجنوب الليبي.
الميليشيات أيضا وأمراؤها يعرفون أن للقوة الاجتماعية دورا كبيرا في حسم هذا الصراع، والتفاف قبائل الجنوب أو معظمها حول الجيش الوطني قد تنتقل عدواها إلى القبائل حول طرابلس، ويحرك طاقة الاحتقان الصامت داخل العاصمة، ما سيشكل حاضنة كبيرة للجيش الذي لا بد أن يتوحد في مواجهة ما يخطط لليبيا من سيناريوهات تهدد وجودها على الخارطة كدولة موحدة.
أما سيناريو التفاف المجتمع حول مؤسسته العسكرية حين تتوحد وارد بقوة، ولا يمكن أن يلحظه إلا مطلع على التاريخ الليبي ومدى تأثير القوة الاجتماعية في موازين الصراع فيه، فهذه الحاضنة الاجتماعية التي سئمت من العصابات الإجرامية التي تقايضها بالأمن مقابل كرامتها هي الفيصل في أي معركة؛ بما فيها معركة استعادة طرابلس المختطفة من قبل قوى إقليمية ودولية عبر توكيل لهذه الميليشيات التي يرأسها أمراء حرب لا وجود لمفهوم الوطن في قاموسهم.
حقيقة في هذه السنوات العجاف لم يتحقق أي إنجاز على الأرض الليبية، سوى إنجازات الجيش الوطني في حربه على الإرهاب وتقويضه لمشروع الإسلام السياسي المرتبط عضويا مع تنظيمات دولية وقوى ترى فيه ضمانة لمصالحها، ما جعل شعبيته تزداد إطرادا، بينما الذين يعادون الجيش بحجة الخوف من عودة الحكم العسكري دحضت حجتهم بتصريحات قيادة هذا الجيش المستمرة عن طبيعة مهمة هذا الجيش ومهنيته واحترامه للمسار السياسي الذي اختاره الليبيون وشرعوا فيه، وعن استعداده الدائم لحماية هذا المسار وتأمين الفضاء لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وهي وعود لا يمكن أن يتراجع عنها الجيش مثلما لن يتراجع في حربه على الإرهاب وسدنته.
توحيد المؤسسة العسكرية والالتفاف المجتمعي حولها، مثلما يحدث في أي دولة تحترم نفسها، هو الضمانة لعودة الوطن إلى مواطنيه بكل استحقاقاته، واستئناف المسار السياسي المدني وفق أهداف ثورة فبراير، أهم حدث في تاريخ هذه البلاد القديم والحديث رغم كل ما تعرضت له من انحرافات أدارتها قوى إقليمية مصابة برهاب التغيير الديمقراطي في المنطقة، وعبر تواطؤ مع قوى محلية معها، ما زالت ترى مصالحها في الفوضى وانقسام السلطات وغياب دولة الدستور والقانون.
ثمة ملاحظتان أخيرتان موجهتان لضمير المؤسسة العسكرية:
الأولى حيال الخروقات التي تحدث باسم الجيش الوطني من قبل منتسبين له، وهي خروقات تسيئ كثيرا لهذه المؤسسة وتعطي المعادين لها مادة إعلامية مجانية لمحاولة تشويهها، وينطبق عليهم وصف الخيانة الذي تحدث عنه كثيرا الناطق باسم القوات المسلحة الليبية.
ثانيا: معركة الكرامة، ومن ثم حروب الجيش ضد ما يسمى بالإسلام السياسي، انطلقت من كون هذا التيار يتلقى أوامره وفتاواه من خارج ليبيا ما يشكل خطرا على الأمن القومي، ومن هذا المنطلق فإن أي جماعة تحاول أن تتخذ الدين ذريعة للوصاية على الناس، حتى ولو بشكل سلمي، وتنتمي عقائديا لمرجعيات خارج ليبيا لا تقل خطرا عن المجموعات التي حاربها الجيش، لأنها تتلقى أيضا فتاواها من وراء حدود ليبيا، وقابلة لأن تتصادم مع المجتمع في حالة تلقيها لأي فتوى قادمة من وراء الحدود، ما يهدد السلم الاجتماعي والأمن القومي.