في السينما توجد عشرات العشرات من الوسائل والطرق التي يستطيع المخرج بها أن يُغرق المُشاهد أكثر وأكثر في فيلمه. تلك الوسائل تُدرَّس بالحذافير في معاهد السينما على مستوى العالم بدون شك. لكن الذي يجعل هذا المخرج مميزًا عن ذاك، هو طريقة توظيف الذي درسه، في قالب فكرته الجديدة.
كريستوفار نولان واحد من المخرجين ذوي البصمة البارزة في صناعة السينما، وهذا يرجع لأسلوبه الفريد في تطويع (الوقت) بشدة. الوقت في الأساس مفهوم سينمائي بسيط للغاية، والتلاعب به يمكن أن يُغير الحالة الشعورية لدى المُشاهد على الفور.
لكن بدلًا من أن يتم التلاعب به بمحور خطيّ، قرر نولان أن يتلاعب به بمحور تداخلي. لم يرغب نولان أن يقدم للجمهور قصة تدور في زمن واحد وذات تدرج متوقع، أراد تقديم قصص متداخلة الأزمان، وغير متوقعة النتائج. وحتى في أفلامه التي تجد فيها تدرجًا خطيًّا للوقت، ستجد أنه ظاهري فقط.
وفي هذه السطور سنتحدث عن كريستوفار نولان، وولعه الشديد بالوقت.
تنويه: المقال يحتوي على حرق شديد لثلاثية باتمان، وأفلام مثل Inception و Interstellar و Memento
ما هو الوقت الخطي والوقت المتداخل؟
لتبسيط الأمر، تخيل أنك ولدت بعام 2000 ميلادي، والآن عمرك 20 عامًا، أي أنك في عام 2020 ميلادي. مررت بالطفولة، المراهقة، والآن أنت في مرحلة الشباب. مرورك من مرحلة إلى مرحلة، كان مرورًا تصاعديًّا، فبالتالي أنت سرت في (خط) واحد ذو نتيجة متوقعة. في النهاية ستصل إلى الرجولة ثم العجز ثم الكهولة، كلها نتائج متوقعة، نظرًا لمرور كل البشر بنفس المراحل، مهما اختلف المكان.
لكن على الصعيد الآخر، الوقت المتداخل هو انتقالك الفجائي من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الكهولة، أو العكس. سواء كان الانتقال جسديًّا بداخل حبكة فانتازية، أو عاطفيًّا بداخل حبكة واقعية معتمدة على الانتقال بداخل الذكريات المدفونة بأعماق العقل. الأمر تجسد بشدة في فيلم Mr. Nobody، من إخراج جاكو فان دورميل. لكن بالنسبة لنولان، أراد أن يأخذ مبدأ الوقت المتداخل إلى مستوى آخر تمامًا، ولهذا كانت له بصمة سينمائية فريدة للغاية.
الآن سنتناول مفهوم الوقت في أفلام نولان، بعيدًا عن محور السيناريو، وقريبًا من محور الفلسفة الإخراجية.
الوقت هو الشرير الخفي
في أي قصة، يوجد بطل، ويوجد عدو للبطل. البطل عادة ما يكون شخصية تريد تحقيق هدف ما، بينما عدو البطل يكون الشخصية التي تحاول عرقلة البطل عن تحقيق هدفه. وهذا إذا نظرنا للقصص بمنظور كتّاب السيناريو، لا بمنظور المخرج. وإذا أخذنا فيلم Inception على سبيل المثال، سنجد أن البطل يحاول حماية أطفاله، بينما عدو البطل هو كل الشخصيات التي تثبط من عزيمته على إتمام المهمة المسندة إليه بداخل عقل الملياردير الشاب. وإذا نظرنا لفيلم Interstellar كذلك، سنجد أن البطل يحاول حماية البشرية، لكن عدوه الرئيسي هو الخوف من الفشل. هذا كله بمنظور الكتابة، لا الإخراج.
فالعدو الحقيقي هو الوقت!
في فيلم Inception، كل شيء بالنسبة للبطل تمحور حول الوقت. كلما غاص أكثر وأكثر في الأحلام، يصير الزمن أبطأ، وتصبح اللحظة الواحدة بمقاييس الواقع، كالأبدية بمقاييس الأحلام. هذا أتى في صالح بطل الفيلم، حيث كلما جعل الزمن أبطأ، استطاع الانغماس في ذكرياته السعيدة أكثر. تلك الذكريات التي تمثلت في رؤيته لطفليه وهما يلعبان على الشاطئ. لكن في النهاية الوقت مهما ساعده على عَيش اللحظة السعيدة، فهو أيضًا يسلبه من الواقع. الوقت هو العدو، مهما كانت نواياه خيّرة.
أما فيلم Interstellar، هناك الوقت تأثيره سلبي على البطل، مما يوضح نواياه الشريرة منذ البداية. الوقت في الفضاء يحرق أضعافًا مضاعفة من وقت الأرض. لذلك فإن الوقت في الفضاء أسرع، وهذا عكس مفهوم الوقت في فيلم Inception. كلما أخذ البطل منعطفًا حادًا في الفضاء، صار الزمن عدوه أكثر وأكثر. حتى أتت النهاية وبات هو أصبى من ابنته ذاتها.
الوقت هو العدو الحقيقي في أفلام نولان، العدو غير المرئي، الشخصية التي لا تُكتب في السيناريو، والشعور الذي يشبه وخز الإبر في مؤخرة عنقك عندما تُدرك أن كل شيء تهاوى، ولا أمامك خيار إلا الإذعان للواقع. في هذين الفيلمين، اعتمد نولان على مبدأ الوقت المتداخل بشدة، وانتقل من زمن لزمن على الدوام. سواء كان قالب الانتقال هو الذكريات كفيلم Interstellar، أو طبقات الأحلام كفيلم Inception.
لا يمكن لأحد هزيمة الوقت
منذ قليل ذكرنا أن الوقت ليس مجرد آلية تساعد على تحسين القصة، بل هو شخصية خفية بالأحداث، تتدارك وجودها بالتدريج. وبما أن الوقت هو العدو اللدود لكل شخصيات أفلام كريستوفار نولان، فبالطبع يجب أن تتم هزيمته بشكلٍ ما. لكن نولان هنا يكسر القواعد مجددًا، ويخلق عدوًا ليس بالإمكان هزيمته أبدًا.
على سبيل المثال في فيلم Batman: The Dark Knight Rises، الهدف الرئيسي من الفيلم هو هزيمة باين، وإنقاذ جوثام من القنبلة. أجل، إنها القنبلة المربوطة بمؤقِت يدندن ببطء نحو الكارثة، إنها القنبلة المربوطة بالوقت. وبالرغم من نجاح باتمان في أخذ القنبلة إلى خارج المدينة، إلا أنها انفجرت في النهاية، وهددت مياه جوثام بمخاطر الإشعاع النووي لقرون وقرون ستأتي. أجل، أنقذ باتمان البشر، لكنه لم يستطع قتل الوقت، فقد انتصر عليه بالفعل، وانفجرت القنبلة على كل حال.
وبعيدًا عن تجسيد الوقت في صورة القنبلة، الوقت نفسه متجسد كعدوّ خفي لباتمان في ثلاثية الأفلام كلها. خلال أحداث الأفلام الثلاثة، حاول بروس على الدوام هزيمة الشر، مهما كانت الضريبة هي نَحل جسده وضمّه من قبل الموت مع الوقت. وفي النهاية، تمت هزيمة الرجل، لكن لم تتم هزيمة الفكرة.
فبالرغم من كون باتمان حيًّا كفكرة، إلا أنه مات كجسد. لم يستطع بروس إيقاف تأثير العمر عليه خلال الأفلام الثلاثة للأسف. جسده بات يتهاوى بالتدريج، وأصبح بروس واين مجرد طور من أطوار باتمان، لا أكثر ولا أقل. الوقت دمَّر بروس واين بالكامل، سواء بالصيغة الرمزية في تهاوي صحته، أو بالصورة التجسيدية عندما انفجر مع القنبلة كي يُنقذ المدينة.
وبهذا يقدم كريستوفار نولان رسالة قوية جدًا للجمهور، ولصنّاع الفن على وجه العموم: مهما حاول الإنسان أن يفعل الأفاعيل، في النهاية سيسحقه الوقت. لذلك ربما نولان يستمر في صناعة الأفلام المتحدثة عن الوقت، في محاولة منه لهزيمة الوقت ذاته، في تجربة أخيرة لكسر القاعدة التي وضعها في كل أفلامه. ربما فِعلًا الوقت عدو لا يمكن هزيمته، لكن صناعة السينما خير دليل على العكس.
الوقت ليس عدو البطل فقط، هو عدوك أنت أيضًا!
لم يرد نولان أن يكون الوقت فقط عدوًّا لشخصيات أعماله، بل أيضًا عدواً لمُشاهديه.
في فيلم Memento مثلًا، كانت حياة البطل كلها مرهونة بالذكريات المفقودة، والقصة كلها دائرة حول الوقت و(اللحظات – Moments). في هذا العمل بالتحديد، ظهرت بشدة نزعة نولان نحو تجسيد الوقت كعدو للإنسان. حيث إذا اقترب البطل من إنارة مكان مظلم في عقله، ظهرت مجموعة أخرى من الأماكن المظلمة التي تحتاج للإنارة. نتتبع سير القصة مع البطل الذي يحاول إنارة تلك الأماكن المظلمة بالتدريج، إلا أن القصة ليست تدريجية كما تعتقد. أتتذكر مبدأ الوقت المتداخل الذي تحدثنا عنه منذ قليل؟ أجل، إنه هنا أيضًا.
ظهر الوقت المتداخل من خلال أسلوب المونتاج الذي استطاع نقل الفيلم من المحور الخطي، إلى المحور المتداخل. الترتيب الغريب للأحداث جعل الوقت عدوًّا للبطل، فبالتالي عدوًّا لك أيضًا كمُشاهد. لا يوجد تصاعد للأحداث، لأنه لا توجد بداية للأحداث من الأساس. كل ذلك التخبط أنت تشعر به كما يشعر به البطل بالضبط، وهذا ساعد على إدخالك في القصة أكثر، وإشعارك بمعاناة البطل أكثر وأكثر. لذلك في فيلم ميمينتو بالتحديد، الوقت عدوك قبل أن يكون عدوًّا للبطل.
فيلم TENET
بدون شك TENET هو أحد أكثر الأفلام المنتظرة في الفترة القادمة من كريستوفار نولان. وبالتأكيد، هذا الفيلم له نصيبه من مبدأ الوقت الخاص بنولان. عند مشاهدة العرض التشويقي، نجد بسهولة وجود الوقت كعدوّ رئيسي للأبطال في أكثر من مشهد. قصة الفيلم تدور حول منع حرب عالمية ثالثة اعتمادًا على وجود شيء يسمح بتوقع المستقبل، لكن ليس شبيهًا بالسفر عبر الزمن. الوقت هو المتحكم في حدوث الحرب، وهو المتحكم في القدرة الغريبة على رؤية المستقبل. هناك الكثير ينتظرنا مع الفيلم بالطبع.
وفي الختام
نولان يكره الوقت، ويُقدمه في أفلام على الدوام كعدو ليس بالإمكان هزيمته على الإطلاق. إلا أن نولان ذاته يحاول هزيمة الوقت في كل فيلم يقوم بصنعه، يحاول بشق الأنفس تخليد اسمه في صفحات التاريخ، متحديًا بذلك محاولات الوقت المستمرة في قتله. وربما هذا ما يجب أن نفعله جميعًا، يجب أن نحاول ترك بصمة في هذا العالم، بصمة تمكننا من قهر سطوة الوقت على أجسادنا الهشّة.